كرة واشنطن في ملعب "الإدارة الذاتية"
لم تكشف إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعد، عن مضامين سياستها في شمال شرق سورية، ذلك أن نهج "الغموض البنّاء" الذي تتبعه الولايات المتحدة في هذه الرقعة من سورية يزيد من أعباء الأطراف التي تحاول العمل على ضوء السياسة الأميركية، أو بالتوازي معها. وعلى الرغم من حالة الاطمئنان النسبية التي تخلّلت وصول بايدن إلى سدّة الحكم، فإنها ما لبثت أن توقّفت، بفعل مضي الولايات المتحدة في نهجها الغامض وحمّال الأوجه، الأمر الذي يُبقي باب التكهنات مفتوحاً.
خلال سنوات التعاون بين قوات سورية الديمقراطية (قسد) وقوات التحالف الدولي والولايات المتحدة، لم تتدخل الأخيرة في شؤون "الإدارة الذاتية"، ولم تتحرّك في الفضاء السياسيّ والعمل المدني، بل اقتصر التعاون على العنوان الأبرز، محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، غير أنّ التحركات الدبلوماسيّة لمساعد المبعوث الرئاسي للولايات المتحدة، ديفيد براونشتاين، أوحت بإمكانية التحرّك على المستويين السياسي والشعبي، أيضاً، ذلك أن براونشتاين تحرّك بين طرفي الحوار الكردي الكردي، ولقائه بشيوخ ووجهاء عرب، وأفرد مساحة للمشاركة في الاحتفالات الشعبية، كما في مشاركته الأكراد في عيد النوروز والآشوريين في يوم آكيتو، وتنقّله على طرفي نهر دجلة، بين أربيل والقامشلي، في محاولةٍ لتجسير هوّة الخلافات الكردية العابرة للحدود. وفي هذا السياق، يبرز السؤال: متى تعيّن واشنطن مبعوثها الرسمي التي تأخر تعيينه، في ظل إشارات إلى إمكانية عدم تعيين مبعوث رئاسي جديد، وهل تعبّر تحرّكات براونشتاين عن نهج المبعوث اللاحق، غير المسمّى، أم أنها اجتهاداتٌ آنيّةٌ خارج نطاق الدبلوماسية الرسميّة؟
انخفاض مستوى الدعم الشعبي للإدارة الذاتية في شمال شرق سورية سيفضي إلى تصدّع في علاقة واشنطن مع الإدارة التي بدت خلال سنوات التحالف غير متطلّبة
جاء التبدّل الأوسع في الخطاب الأميركي على شكل نسخ إدارة بايدن مقولة ترامب "باقون لأجل حماية النفط" إلى "لسنا هنا لأجل حماية النفط"، ما عنى أن مسألة بقاء القوات الأميركية باتت محسومة لصالح الإبقاء على دورها نشطاً في سبيل حماية "قسد" بالدرجة الأساس، ويدلّ على ذلك أن الإدارة الأميركية رفضت تمديد الترخيص لشركة دلتا كريسنت إنيرجي، النفطية الأميركية، في شمال شرق سورية، الأمر الذي عنى تراجع واشنطن عن إمكانية التعاطي من بوابة النفط التي اختارتها إدارة الرئيس السابق، ترامب، مع "الإدارة الذاتية"، كما أن وقف التمديد للشركة التي رخّصت عملها في إبريل/ نيسان 2020 يلحق الضرر بالعلاقة الأميركية التركية، فقد أفضى التعاقد إلى شدّ عصب تركيا، وما استتبعه من عدم ارتياح قيادة إقليم كردستان من طبيعة التعاقد المعطوف على غضب أنقرة، وهو العامل الرئيسي الذي ساهم في وقف الترخيص للشركة التي لم تصنع فرقاً في مسار تطوير القطاع النفطي المتآكل وضعيف الإنتاجية.
في الأثناء، أفرجت واشنطن عن 50 مليون دولار جزءاً من مساعدة أميركية لـ "الإدارة الذاتية"، من أصل قرابة مئتي مليون دولار، كانت إدارة ترامب قد جمّدتها، ما يعني إمكانية تطوير نهج التعاطي الإيجابي مع المنطقة التي تعاني من أزماتٍ مالية، واضطرابات متواصلة ناجمة عن ارتدادات الأزمة الاقتصادية السورية، وحالة الحصار المفروضة على شمال شرق سورية، وجملة مسائل شرعت الإدارة في تطويقها، كالفساد وحركة التهريب النشطة، فضلاً عن تراجع موارد الإدارة من نفط وزراعة ومعابر، ولعل تردّي الأوضاع الاقتصادية، وبالتالي انخفاض مستوى الدعم الشعبي للإدارة، سيفضي إلى تصدّع في علاقة واشنطن مع الإدارة التي بدت خلال سنوات التحالف، منذ مطلع عام 2015، غير متطلّبة، وقادرة على تسيير الموارد وترشيدها في الحدود الدنيا.
تبدي "قسد"، دائماً، قبولاً بالمطالبات الأميركية لجهة الحفاظ على الحوار مع إقليم كردستان، والمواظبة على عدم استثارة تركيا
الغالب على الظن أن واشنطن سترفع من حجم مطالباتها عبر التركيز على تسريع وتيرة الإصلاحات في هياكل الحكم المحلي، لتصبح أكثر شمولاً وتعبيراً عن واقع التعدّد السياسي والإثني، والالتزام بإنهاء ملف التداخل بين ما هو حزبي وما هو إداري، عبر إبطال دور "مسؤولي الظل" في الإدارة. وإذا كانت الولايات قد أبدت شيئاً من الفتور فيما خصّ ملف الحوار الكردي السوري الداخلي، فإن ذلك لن يعني بأي شكل إهمال الحوار بين حكومة إقليم كردستان العراق و"الإدارة الذاتية" الذي تراه واشنطن وثيق الصلة بمراعاة مخاوف أنقرة وذرائعها. وبطبيعة الحال، تباطؤ الإدارة في السير في هذه المسائل سيعني إمكانية تراجع الدعم الأميركي.
تبدي "قسد"، ودائماً على لسان قائدها العام، مظلوم عبدي، قبولاً بالمطالبات الأميركية لجهة الحفاظ على الحوار مع إقليم كردستان، والمواظبة على عدم استثارة تركيا، والوعود بالإصلاح والشفافية ومكافحة الفساد وترشيد الموارد، ولعل إعلان الميزانية العامة للإدارة لهذا العام ولأول مرة بعد إقرار القانون المالي منذ عام 2018 يصبّ في الاتجاه نفسه، إضافةً إلى إبقاء عنوان الشراكة الأساسي، وهو محاربة خلايا "داعش" وتعقّبها. بالتالي، معالجة كل هذه المسائل العاجلة والمتراكمة في وقت واحد تعني أن الكرة باتت في ملعب "الإدارة الذاتية". وعليه، ستكون محاولة تفسير السياسة الأميركية في شمال شرق سورية، على الرغم من الغموض الذي يكتنفها، على ضوء تعاطي الإدارة الذاتية مع كل هذه الملفّات في وقت واحد.