كامل الأوصاف

11 أكتوبر 2021

(الحبيب بيدة)

+ الخط -

لعلها من أكثر النماذج استفزازية وإثارةً للغضب، غير أنها، في واقع الأمر، تستحق بعضاً من التعاطف والتفهّم لطبيعتها المركّبة بالغة التعقيد، إذ غالباً ما تجد الشخصية الباحثة عن الكمال (perfectionist) صعوبةً قصوى في حياتها المهنية والاجتماعية، نظراً إلى طبيعتها التنافسية وإصرارها على التفوق، فتعاني، على الدوام، من توترٍ عال، كونها محرومة من الإحساس بالرضا والاكتفاء، يلازمها شعور بالسخط على ذاتها وعلى الآخرين، لأنها سجينة معايير دقيقة صارمة خاصة بها، ويصنفها علم النفس من الشخصيات المؤهلة للإصابة بالاضطرابات السيكولوجية الحادّة التي تؤدي بصاحبها إلى الوقوع فريسة القلق والضغط النفسي والوسواس القهري والاكتئاب.
يتميّز صاحب هذه الشخصية بالقسوة الشديدة على الذات وعلى الآخرين، ما يؤدّي إلى ابتعاد الناس عنه، لصعوبة التعاطي معه، فهو كربّ عمل قد يشكّل كارثةً حقيقيةً على مرؤسيه الذين لن ينالوا رضاه، ومهما بذلوا من جهد وحققوا من إنجازات يظل بارعاً في إيجاد خلل ما، بل إنه يتلذّذ في اكتشاف نقاط الضعف، مهما كانت ضئيلة وغير مؤثرة. وعلى فرض أن العمل كان متقناً، فإنه يجد صعوبةً في امتداح موظفيه أو تشجيعهم ببضع كلماتٍ محفزة. لذلك يعاني هؤلاء من الإحباط والقلق، كون إرضائه غايةً لا تُدرك، ما يقلّل من مستوى إنتاجيّتهم ويعرّضهم للإحباط وضعف الثقة بالذات. وعلى الرغم من تحلّيه بمزايا إيجابية عديدة، مثل إتقان العمل والبراعة في التحليل، وتحمّل المسؤولية والجدّية والإخلاص والحساسية والمثالية، غير أنه ينجح في تنفير الآخرين منه، كونه كثير النقد، صاحب نفسٍ لوّامة، غير متساهل مع ذاته ومع الآخرين، لا يأخذ الأمور ببساطة، بل يخضعها للتحليل والمراجعة.
ويمكن تخيّل هذا النموذج المعقّد رب أسرة متسلطاً يحيل حياة أبنائه إلى جحيم، سيما إذا لم يرتقوا إلى مستوى توقعاته، ليقينه أنه الأكثر قدرةً على تقرير مصيرهم، فيتدخل في أدقّ تفاصيل حياتهم، ويعمل على توجيه مسارهم الأكاديمي والمهني، وذلك كله من باب الحرص والمحبّة التي لا يتقن التعبير عنها في العادة. أما علاقته بالمرأة، فإنها غالباً ما تبوء بالفشل، لأنه، وعلى الرغم من حساسيته العالية، لا يتيح لمشاعره المدروسة المنضبطة بإحكام أن تتدفق، بل يُخضعها لرقابة العقل والمنطق، ما من شأنه إفساد عذوبة مشاعر الحب التي تكون في أوجها منفلتة حرّة مجنونةً جارفةً ومستحوذة، كفيلة بمد الروح بالفرح المجّاني غير المحسوب.
يُفترض بالمرأة المبتلاة بحب رجلٍ كهذا قدرة عالية على ضبط النفس، وتحمّل مزاجه الصعب ومنطقه الصارم وحساباته وتحليلاته التي لا تنتهي، والتخلّي عن تلقائيتها والخضوع لمعاييره التي تسعى إلى الكمال غير القابلة للتنازل تحت أي ظرف. وإذا ما رغبت في الارتباط به، عليها أن تدرك أنها باتت رهينة مقاييسه، وأنها لن تنجح في تغيير أيٍّ من صفاته. وفي هذه الحالة، لن يكون أمامها سوى الانصياع وسيلة وحيدة لاستمرار العلاقة. أما إذا كانت تتحلّى بشيءٍ من الحكمة والاعتداد بالنفس، فإنها سوف تبتعد وتنجو بنفسها من علاقة ستمحو شخصيتها، وتحوّلها إلى كائن هشّ ضعيف مستلب، غير قادر على اتخاذ أي قرار، في ظل هيمنة رجلها، كامل الأوصاف الحاكم بأمره. ولا نملك إزاء نموذجٍ كهذا سوى الإحساس بالشفقة والرثاء، لأن ثمّة ما ينغّص عليه عيشه طوال الوقت. وفي سياق سعيه إلى تحقيق الكمال والمثالية، في كل مناحي حياته، فإنه يفقد القدرة على الإحساس بالسعادة، حتى لو توفرت كل أسبابها!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.