كازاخستان .. أزمة داخلية والحدث دولي
في وقت اتجهت الأنظار نحو أوكرانيا والتوتر بين روسيا والغرب، اندلعت احتجاجات كازاخستان في آسيا الوسطى. وعلى الرغم من أن شرارة اشتعال الاحتجاجات هي ارتفاع أسعار الوقود، مع وجود أسباب تراكمية داخلية أخرى، معيشية اقتصادية وسياسية، إلا أن ارتباطات كازاخستان في علاقاتها الخارجية جعلت الحدث في هذه الجمهورية السوفييتية السابقة دوليا بامتياز. وقد اكتسبت كازاخستان أهميتها لأسواق الطاقة العالمية، كونها أكبر مصدّر لليورانيوم، ومن كبار منتجي النفط والفحم، ما أثار المخاوف من تداعيات الاضطرابات التي شهدتها وعدم استقرارها على أسواق الطاقة وأسعارها.
مع انتشار الاحتجاجات ووصولها إلى الماآتا، أكبر مدن كازاخستان، طلب رئيس البلاد، قاسم جومارت توكاييف، المساعدة الأمنية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا التي التزمت بسهولة بإرسالها قوات. ومؤكّد أن دخول روسيا عسكرياً هذا قد أقلق الغرب، لما تمتلكه كازاخستان من موارد (النفط والغاز واليورانيوم) وموقعها المركزي في مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تتفرع إلى إيران وتركيا وروسيا. وحافظت كازاخستان على سياسة التوازن النسبي بين روسيا والصين والولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد يختل هذا التوازن فجأة.
دخول روسيا عسكرياً أقلق الغرب، لما تمتلكه كازاخستان من موارد (النفط والغاز واليورانيوم) وموقعها المركزي في مبادرة الحزام والطريق الصينية
من غير الواضح بالضبط ما يأمل الكرملين تحقيقه في كازاخستان، وإذا حاولت روسيا السيطرة على موارد البلاد، فسوف ينتهي بها الأمر في مواجهة مع الصين، لا تستطيع تحملها اليوم. ومع ذلك، بعد سنوات من وقوف الكرملين متفرجًا ومشاهدة غزو الولايات المتحدة والصين كازاخستان اقتصاديًا، بات اليوم على تلك الدول أن تراقب كيف ساعد الجنود الروس في حراسة المدن الكازاخية، حيث تمتلك شركات شيفرون وإكسون موبايل وشركات نفط أوروبية حقولا ومنشآت في جميع أنحاء كازاخستان. لذا، آخر ما يريدونه هو صراع أعمق هناك. وما أثار المخاوف أيضاً في الاحتجاجات أن تتردد أصداء عدم الاستقرار في أكبر الجمهوريات الإسلامية السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى وأكثرها ثراءً بالموارد في جميع تلك الدول، بينما تشعر طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان أيضًا بتهديد من أفغانستان المجاورة التي تحكمها حركة طالبان. وقد قال الرئيس الروسي، بوتين، مرارًا، إن أمن آسيا الوسطى أمر حيوي لبلاده، وقد نشر قوات روسية لتأمين حدود طاجيكستان الضعيفة مع أفغانستان. وتاريخياً، كانت موسكو قلقة بشأن أمن الحدود الجنوبية والغربية لروسيا تقريبًا على قدم المساواة.
نجحت سلطات كازاخستان، مبدئياً، باستعادة الهدوء في البلاد، بعد دخول قوات حفظ السلام من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والتي ينظر على أنها حلف ناتو على الطريقة الروسية. وتلا ذلك سرعة إعلان نجاح مهمة تلك القوات، وبدء انسحاب وحدة حفظ السلام من الجمهورية بعد أيام من وصولها. وفي حال تمكّنت السلطات من إجراء الإصلاحات الإدارية والاقتصادية التي تعهد بها الرئيس توكاييف، بعد إقالته الحكومة وتجميد قرار رفع أسعار الوقود، تماشياً مع مطالب الاحتجاجات، فسيكون أمام كازاخستان مساران في علاقاتها مع روسيا.
نجحت سلطات كازاخستان، مبدئياً، باستعادة الهدوء في البلاد، بعد دخول قوات حفظ السلام من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والتي ينظر على أنها حلف ناتو على الطريقة الروسية
الأول، إيجابي: في حالة العودة السريعة إلى الاستقرار في غضون ثلاثة إلى أربعة أشهر، ستدخل العلاقات بين نور سلطان وموسكو مرحلة تكامل أعمق، وستضعف التوترات التي تنتشر بين حين وآخر، والمرتبطة بانتشار الكراهية ضد الناطقين باللغة الروسية في البلاد. وستتعزز علاقات كازاخستان مع روسيا والدول المجاورة بشكل أكبر (خصوصا مع أعضاء منظمتي معاهدة الأمن الجماعي وشنغهاي للتعاون ورابطة الدول المستقلة)، وستتحسّن العلاقات الاقتصادية والسياسية. وفي الوقت نفسه، ليس واضحا كيف ستسير العلاقات مع الدول الغربية، سيما التي ترتبط معها الجمهورية بأوثق العلاقات المالية والاقتصادية، عبر شركات عملاقة في قطاع الطاقة.
وستكون هناك آفاق أخرى لتعزيز العلاقات بين الدول في إطار منظمتي معاهدة الأمن الجماعي وشانغهاي للتعاون التي ستصبح أداة موثوقة لموسكو وبكين في إطار معارضة جماعية مشتركة للغرب، ولن يكون مستبعدا حضور قادة الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي ضمن وفود إلى الألعاب الأولمبية في بكين لدعم السلطات الصينية، على خلفية مقاطعة دول غربية.ة
المسار الثاني، سلبي: في حال لم تتمكّن السلطات من معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات المتراكمة التي فجرت الاحتجاجات، فقد أشعلت سرعة إرسال روسيا قواتها إلى كازاخستان مخاوف عديدة، داخلية وخارجية، وتحولت إلى أشبه بمواجهات على وسائل التواصل الاجتماعي بين فئة من الجانبين، الكازاخي والروسي، وزادها وصف معارضين قوات حفظ السلام بقوات الاحتلال. وينتشر هذا الاتجاه في كازاخستان، على الرغم من الإعلان السريع عن الانسحاب. وبالنسبة لجزء من السكان، قد يتسبب هذا في زيادة المشاعر القومية، والتي تتعزّز في مواجهة خطابات بعض النواب الروس عن روسية أجزاء من أراضي كازاخستان اليوم، وهو ما ستترتب عليه مواجهة بين السكان الناطقين بالروسية والكازاخ، ما سيذكّر بسيناريو أوكرانيا.
إذا حاولت روسيا السيطرة على موارد البلاد ينتهي بها الأمر في مواجهة مع الصين
وقد لا يهم كازاخستان اليوم مسار علاقاتها الخارجية وطبيعتها في المرحلة المقبلة، سواء مع روسيا أو أميركا، فهذا سيتحدّد لاحقاً، والأهم من ذلك بكثير المسار الذي ستّتخذه السلطات داخل الدولة في غياب الرئيس السابق، نور سلطان نازاربايف، عن المشهد كلياً، والذي ظل ممسكاً بزمام الأمور في البلاد، من خلال مناصب مفصلية، حتى لحظة اندلاع الاحتجاجات مطلع العام، حيث تولّى الرئيس الحالي توكاييف رئاسة الأمن القومي الذي كان نازاربايف يرأسه مدى الحياة، وأين سيقف رئيس البلاد في حال عادت الاحتجاجات، فجذور المشكلة لم تعالج بعد، سيما في شقّها الاقتصادي، والسياسي المتعلق بعملية انتقال السلطة وصراع النخب والعشائر.
يبقى القول، يمنح عدم الاستقرار في كازاخستان، في حال استمراره، أو تجدّده عند الفناء الخلفي الجنوبي لروسيا على تخوم الصين، الولايات المتحدة وحلفاءها ورقة في المفاوضات مع موسكو، فيما يتعلق بأوكرانيا، وأيضًا في تنافسهم مع الصين.