كاراباخ ومشكلات التحالف الغربي
أعادت قمة موسكو الأذرية – الأرمينية، برعاية روسية، إلى الأذهان ظروف (وأجواء) الاتفاق الروسي، بتنسيق مع تركيا، الذي أوقف حرب كاراباخ الثانية، حيث استضافت موسكو، في 11 يناير/ كانون الثاني الجاري، قمة جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأذري إلهام علييف مع رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشنيان، بعد مرور قرابة شهرين على اتفاق إيقاف الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورني كاراباخ.
قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أواخر العام الفائت، إن فرنسا والولايات المتحدة تعانيان "كبرياء مجروحة"، على خلفية دور موسكو في وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان في كاراباخ. وتكشف مطالبة باريس موسكو بتوضيح "الغموض" في شأن الاتفاق، ودور تركيا فيه، عن عدم رضا فرنسا في شأن التهميش الذي تعرّضت له. وقد ظهرت فرنسا في هذه الأزمة المتجدّدة أشبه بنمرٍ بلا أسنان، لا تلعب أي دور حاسم في المنطقة، وليس لديها سوى المستوى الدبلوماسي وسيلةً محدودة للغاية، لممارسة أي ضغط، ولم يستطع الاتحاد الأوروبي، ولا باريس، إيقاف المعارك بين الأذريين والأرمن. وحاول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بصفته رئيساً مشاركاً لمجموعة "مينسك"، استغلال أزمة ناغورني كاراباخ، وتولي زمام المبادرة، لتأكيد نفسه قائدا حقيقيا لكل أوروبا.
شكل الاتفاق بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا في كاراباخ صدمة للغرب، وبخاصة باريس
لا يمكن إنكار أن الاتفاق بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا في كاراباخ شكّل صدمة للغرب، وبخاصة باريس، إذ كان الجميع واثقاً من أن روسيا وتركيا ستتواجهان في جنوب القوقاز، لكن حدث العكس، ومنعت موسكو وأنقرة مشاركة الأطراف الغربية الغريبة عن المنطقة، واستمرّت التصريحات المتوترة بين روسيا والولايات المتحدة، واستمر التصعيد الكلامي بين ماكرون ونظيره التركي أردوغان على جبهاتٍ متعدّدة. إضافة إلى ذلك، لا ينبغي أن يُنسى الوضع الصعب داخل فرنسا، سيما في ما يخص أصحاب السترات الصفراء والاحتجاجات الصحافية أخيرا، وتصريحات ماكرون المتعلقة بالإسلام.
وكشفت حرب كاراباخ الثانية، من بين أمور كثيرة، أهمية التعاون والتنسيق بين تركيا وروسيا، وسبق أن رأيناه في سورية، وجرت محاولات تكراره في ليبيا، حيث يختلف موقف تركيا حيال نزاع جنوب القوقاز بشكل كبير عن موقف واشنطن وباريس اللتين تدعوان إلى تجميد النزاع من دون حله، وليس هذا جديداً، فلم تكن تركيا أبداً لاعباً طارئاً على منطقة القوقاز، وهي تعلن موقفها بوضوح، وقوفها الكامل إلى جانب "شقيقتها" أذربيجان، لاستعادة أراضيها المحتلة، على عكس بقية الأطراف التي تعلن حيادها في هذا النزاع، بينما تدعم هذا الطرف أو ذاك، من تحت الطاولة. ولافت قبل أيام قول بوتين إن تركيا لم تخف أنها تدعم أذربيجان في كاراباخ.
وقد جاء ميل واشنطن نحو أرمينيا، إلى حد كبير، رغبة في الضغط على تركيا، ولا يتعلق الأمر بالعلاقات الأرمينية - التركية، بقدر ما يتعلق بالخلافات الأميركية - التركية في الشرق الأوسط. ويُنظر، في الوقت نفسه، إلى تعاون أرمينيا مع روسيا وإيران تحدّيا خطيرا لموقف الولايات المتحدة في القوقاز. ويصعب أيضاً النظر إلى التحرّك الدبلوماسي الفرنسي حيال نزاع القوقاز فحسب من خلال تأثير اللوبي الأرمني في فرنسا، حيث ماكرون معارض لأنقرة في البحر المتوسط، وكذلك الموقف الفرنسي من الخلافات التركية – اليونانية، وقضية قبرص المعقدة، والمواجهة في ليبيا، ودعم باريس ما تسميه أنقرة الإرهاب الانفصالي في سورية.
استطاعت روسيا إيقاف حرب كاراباخ الثانية، بعد وساطتها في إنجاز اتفاق، ينظر إليه اليوم على أنه تاريخي بين أرمينيا وأذربيجان
وكشفت أيضا حرب كاراباخ الثانية المشكلات الخطيرة في التحالف الغربي. وفي الواقع، لا نجد اليوم موقفا غربيا واحدا، وليس فقط حيال جنوب القوقاز، وإنما في مسألة العقوبات الغربية على روسيا، وفي ليبيا، وما تزال وسائل الإعلام تتناقل تصريحات ماكرون عن الموت السريري لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي تلقى ردّا قويا عليها، سواء من أردوغان أو ترامب الذي اعتبر أن فرنسا أكثر بلد يحتاج إلى "الناتو".
استطاعت روسيا إيقاف حرب كاراباخ الثانية، بعد وساطتها في إنجاز اتفاق، ينظر إليه اليوم على أنه تاريخي بين أرمينيا وأذربيجان، بالتنسيق مع تركيا، مع ضرورة الانتباه إلى أن الملفات المتعلقة بأرمينيا خط أحمر مهم في أجندة أنقرة. وكانت السرعة التي تصرف بها بوتين، ودوره المباشر في تنظيم المحادثات بين الأرمن والأذريين حاسمة للغاية، وأدّت وساطته إلى نشر قوات حفظ سلام روسية، ومشاركة مع تركيا في مراقبة وقف إطلاق النار. وقد ناقش ماكرون مع بوتين، في اتصال هاتفي بينهما في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، استمرار المعارك على نطاق واسع بين باكو ويريفان، وتوصلا إلى التزام متبادل بمواصلة جهود الوساطة والتنسيق بين روسيا وفرنسا، ثم استيقظ ماكرون، بعد ثلاثة أيام من اتصاله ببوتين، وأدرك أن قوات حفظ السلام الروسية باتت موجودة في كاراباخ. والصدمة الأخرى التي تعرّض لها ماكرون، في اتصال هاتفي آخر مع بوتين، بعد ستة أيام من اتفاق وقف إطلاق النار، حيث أوضح الكرملين في بيان أن المكالمة الهاتفية جرت لأن "روسيا وفرنسا رئيسان مشاركان لمجموعة مينسك، التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا".
يبقى القول، في استحضار أكثر من ملف إقليمي ودولي، تتداخل وتتعقد فيها مصالح موسكو وأنقرة وأهدافهما، إن اتفاق جنوب القوقاز بشأن كاراباخ انتصار آخر للتعاون الروسي – التركي، وفشل للغرب.