كادَ لبنان أن يكون مستقبل الولايات المتحدة
كل شيء في دونالد ترامب قرّبه من "النموذج" اللبناني. يغالي في الكذب، يتدفّق كذبه يوميا، على "تويتر"، على المنصّة، أمام الحشود. كلام فارغ واختلاق وافتراءات. يخترع وقائعه الخاصة، التاريخية أحياناً. لا يعرف معنى العيب. يتحسّس، لا يستحي ولا يحسّ. ولا يفتعل مواقف مشرِّفة، لا تهمّه تلك المواقف، ليست من طبائعه ولا مزاجه. تنقصه الأناقة والوجاهة والأريحية. كريه، يداوم على الاعتداد بقبحه. عموده الفقري، قالبه، مسكوبٌ بقطع مرصوصة من الوحل، تجفّفها رمالٌ لا تتوقف عن الحركة. مريض بالنرجسية والوساوس. كأنها جيناته. لا تحتاجان ربما إلى تفسير: من نوع أن والده أفرط في تدليله، أو أن نجاحاته في عالم تلفزيون الواقع أكمل المهمة. كأنه وصل إلى أعلى سلطة على الكوكب الأرضي ليتسلّى بنا، ويطوّر كل معوقاته النفسية على حساب مصائر متفرّقة، موزّعة خارج أميركا بما يساوي داخلها. لذلك تراه منعدم الخيال في السياسة. لا يفهمها. لا يريد أن يفهمها. مزاجه الآن غير رائق. هو يريد فقط أن يستمتع بتلك السنوات الأربع التي منحته إياها الانتخابات. أن يلعب الغولف، أن ينفخ صدره أمام العالم، أن يدخل المال إلى خزائن أصدقائه الأغنياء، السوبر أغنياء.
مع ترامب تخلع الكمامة، أو ضد ترامب وتضعها على وجهك. إلى هذا الدرك، أوصل ترامب الشعب الأميركي
لا وجود لأمٍّ حانيةٍ في طفولته، ولا في إدراكه السحيق، وإن كان محاطاً بعائلة موسعة. لكنها ليست عائلة التراحم. إنما عائلة المحسوبية والمحاباة. أعطى أفرادها ما لا يتناسب ووظيفتهم أو مهاراتهم. و"الصهر" على رأسهم. ثم إنه، كما في لبنان، يدوس ترامب على الدستور والقوانين، ويخرّب الخدمة العامة والهيئات المهنية والمستقلة. ويفتح طريقاً سالكة أمام التفلّت من العقاب، من المحاسبة، وفساد يطيح بالأخلاقيات السياسية الداخلية للأميركيين، أو بالجانب المشرق منها. فلا يبقى الكثير يعتزّون به، أو يعوّضون به عن اعتباطية سياستهم الخارجية.
لا يعترف ترامب بالعلم ولا بالعلماء، ناهيك بالثقافة. وقد وطّن تلك الثقافة التلفزيوينة، السطحية، الإنفعالية، التي صارت تجهل التجريد والتفكير الأعلى. لا يحرص على الوحدة الوطنية، إنما يشعل الانقسامات المتوالية، يعتقد أنها لصالحه، أي لصالح استمراره في قيادة البلاد إلى الأبد، كما وعدَ نفسه وتأهّب. جديد تلك الانقسامات وضع الكمّامة للحماية من الوباء، أو الامتناع عنها، دليلا على الخيار السياسي: مع ترامب تخلع الكمّامة، أو ضد ترامب وتضعها على وجهك. إلى هذا الدرك، أوصل ترامب الشعب الأميركي. وقبل الكمّامة، انقسامات وطنية حادّة ممتدة، يتلذّذ ترامب بتأجيجها. ثم الكراهية لـ"الغرباء" من لاجئين، ومكسيكيين ومسلمين..
"ناضل" ترامب من أجل مزيد من تحرير حَمَلته من القيود والقوانين، وخاض معارك ضد المطالبين بالحدّ منه
والسلاح، سلاح المجموعات المنظمة، والأفراد المبعثرين. "ناضل" ترامب من أجل مزيد من تحرير حَمَلته من القيود والقوانين، وخاض معارك ضد المطالبين بالحدّ منه. ولكنه لا يُهمل قوى الشرطة الرسمية، بل يشدّ على أيديها كلما تتجاوز حدودها. ولا المجموعات "الأهلية" المنظّمة المعتدية على أخرى، بالعنف الجسدي أحياناً. التي نالت بركته على نحوٍ صريح. والتصاقه بالموقع الافتراضي المؤامراتي المسمّى "كيو". وقد نالَ الأخير برَكته وبرَكة جمهوره. موقع يبثّ في العالم الافتراضي أخباراً عن مؤامرات أعداء ترامب، كلها مزيفة، لكنها "موثّقة" بحسب أصحابها، ويتابعها ملايين من مؤيدي ترامب، لا يتابعون غيرها.
نقطة الالتقاء الأقوى بين ترامب ونحن هي الهوية. كثيرون لا يفهمون ذاك الثبات في قاعدة ترامب الشعبية، على الرغم من كل تجاوزاته. وآخرون يستقْصون: السرّ هو الرجل الأبيض، غير المؤهَّل لوظائف أو مهن مرْضية، غير حائز على شهاداتٍ جامعية، الذي انحدرت حياته. والأهم: الذي يرى أن أعداءه سوف يتفوّقون عليه عددياً بعد سنوات قريبة، وسوف يتحوّل هو إلى أقلية. وهؤلاء الأعداء هم: "غير البيض"، "الملوَّنون"، الذين يتراوح لون بشرتهم بين الأسود والأسمر، وما بينهما من درجات. أي هوية لا تُمحى. موروثة، لم يتم اختيارها، ثابتة، لا تنتهي، قد تخبو بفعل مناخ، ولكن يُعاد إحياؤها عندما تضيق الأرزاق. خلف ترامب جماهير عرقية لا تختلف عن الجماهير الطائفية، بما يشبه جوهرانية هويتها، عبادتها الزعيم، انغلاق عالمها المعرفي والإدراكي عليه... الموت نفسه مهزوم أمامها. انظر إلى تلك الحشود الجماهيرية التي لبّت مهرجانات ترامب الانتخابية، من دون كمّامة طبعاً، وبالتصاقات خطيرة. تتحمسّ له بروحها ودمها.. فيما كورونا يحصد درجات موت عليا، في بعض الولايات المعقودة على هذه المهرجانات.
هنا تتوقف المقارنة بين لبنان وأميركا، فالفرق شاسع: بين أن يستمر أشباه ترامب بالحكم، كما عندنا. ولا يتغير ولا وجه من أوجههم. ولا اسم، رغم "انتخاباته"، وأن تأتي انتخابات، فيقول الشعب كلمته، ويوقف الوحش السياسي عند حدّه. "كفى أربع سنوات .. كفى!". الآن، تغلّب جو بايدن على ترامب، وفي انتخابات كانت بصمات هذا الأخير واضحة عليها. افتعالات بالجملة، مخالفات، عراقيل، طعون بلا إثباتات.. تقابلها أعلى نسبة اقتراع، لم تشهدها أميركا منذ مائة سنة، على الرغم من الوباء، على الرغم من التقطيعات الانتخابية (يسمونها عندنا "قوانين انتخابية")، على الرغم من الإرهاب في بعض صناديق الإقتراع (أضاف بعضهم "بالسلاح طبعا")، على الرغم من الجو المشحون والمنقسم..
كما في لبنان، يدوس ترامب على الدستور والقوانين، ويخرّب الخدمة العامة والهيئات المهنية والمستقلة
من جهتنا، كيف ينظر معظمنا إلى هذا التغيير؟ بعين الانقسام الوطني الداخلي إياه. إذا كان مع هذا المحور أو ذاك. مع الممانعة، أنت فرحان. وضدها، أنتَ زعلان. لماذا؟ لأن ترامب كان أشد عداءً لإيران من خصمه الديمقراطي الذي كان نائباً للرئيس الأميركي سنة توقيع الاتفاقية مع أميركا.. فيتنفّس "المنتصرون" الصعداء. صبروا "حتى الانتخابات"، ونالوا. لكن إدارة ترامب لا تأبى تمرير هزيمتها من دون رصاصة قناص، يتسلّى بضحيته، في طلقةٍ أخيرة، فكان قرار العقوبات الأميركي على جبران باسيل، صديق الممانعة غير الصَدوق، فعودة بعض الروح إلى المعسكر المعادي للممانعة، وردّ عليهم بأن "الاستقواء بالخارج" سلوك العاجزين البليدين .. إلخ .. إلى بقية الأهازيج.
والحال أن فوز بايدن يستحق على الأقل ابتسامة من مواطني بلداننا. هو لن يقيم جنة العدالة على الأرض (وأين هي تلك الجنة البرّية على كل حال؟). سيحاول، كما كل السياسيين الديمقراطيين، أن يقول الحقيقة. بوجه متواضع، وخلفه امرأة "ملوّنة". أليس أقلّ وطأة علينا من رئيس أميركي وقح، يعتزّ بصداقاته مع الديكتاتوريين، ومنهم ديكتاتوريونا، ويحثّهم على المزيد؟ وإلا فما البديل من بين المهيمنين على العالم؟ الصين التي يحكمها حزبٌ واحدٌ منذ سبعة عقود، وزعيم تدرج في هذا الحزب إلى الأعلى، منذ أكثر من عقد، شرّع أبديته؟ أم روسيا، ويحكمها رجل مخابرات سابق، أي رجل "الدولة العميقة" للعهد السوفييتي البائد. يحكم منذ عشرين سنة، تارة مباشرة وتارة عبر رئيس وزراء من أزلامه الأوفياء؟ والذي يشتغل على دستور تأبيد حكمه هو أيضا؟ والاثنان يقتلان معارضيهما، بالرصاص أو بالسمّ أو الإخفاء؟ تخيّل لحظة واحدة، شخصية أخرى، من حزب آخر، غير هؤلاء الاثنين، تقود بلادها، أو مرشّحة لهذه القيادة .. هل يحصل ذلك إلا بعد موتهما؟