قيس سعيّد .. عبد الله بوكرم
هناك، في الإكوادور، أمكن للسياسي اللبناني الأصل، عبد الله بوكرم، أن يهزِم منافسه في الانتخابات الرئاسية التي ترشّح لها في عام 1996. وهو خرّيجٌ جامعيٌّ في القانون، ومعلّقٌ رياضي، ورئيس بلدية، وعضوٌ مؤسّسٌ في الحزب الذي خاض الانتخابات باسمه. كان بارعاً في مخاطبة الناس، على تنوّع شرائحهم وتلويناتهم، سيما الفقراء، في أثناء حملته الانتخابية. أمضى في رئاسته بلادَه ستة أشهر فقط، فقد عزَله البرلمان (الكونغرس الوطني) "لقيامه بتصرّفاتٍ غير لائقةٍ بمنصب الرئاسة" و"لافتقاره القدرة العقلية لإدارة البلاد". وهو كان يُطلق على نفسه اسم المجنون (El Loco). وقد نُسب إليه أنه اقترح، إبّان رئاسته، تشكيل حكومةٍ من الفقراء لإدارة البلاد. شوهد يغنّي ويرقص مع حرس القصر الرئاسي، وشوهد يستقبل وفداً أوروبياً وهو يلبس الشورت.
وفي تونس، أمكن لغير السياسي، قيس سعيّد، أن يهزِم منافسَه في الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية التي ترشّح لها في 2019، وهو خرّيج جامعيٌّ في القانون، لم يتسلّم أي موقعٍ قياديٍّ في حياته السابقة على رئاسته. انجذبت إليه شرائح غير قليلةٍ من التونسيين، لخطابيّته الشعبوية، عن الفساد والمفسدين. ما زال في قصر قرطاج رئيساً، ويواظب بدأبٍ ظاهرٍ على هدم كل مؤسّسات البناء الديمقراطي للدولة التونسية، والتي أقامتها نخبٌ منتخبةٌ، ومتخصصةٌ، وكفاءاتٌ، في البلاد بعد ثورةٍ مشهودةٍ اشتعلت قبل أزيد من عشرة أعوام. يحترف التجهّم، يحافظ على تقطيبته الدائمة، يحرص على إيذاء اللغة العربية بتكلّفه الفصاحة. أجهز على الدستور، وشقلبه، وأتعب التونسيين وهو يخيّط ويفصّل قوانين ومراسيم، وحدَه، في غير شأن وشأن. لم يُعثر منه على عبارةٍ واحدةٍ عن أيٍّ من المشكلات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تزداد حدّة في تونس.
كان عبد الله بوكرم كاريكاتورياً في مسلكياتٍ شخصيةٍ فيه، لأهل بلاده وممثليهم أن يروا فيها ما يخصِمُ من صورة دولتهم. ربما، في وجهٍ ما، أشاع المرح بينهم. وفي سمْتٍ آخر له، كان الرجل متواضعاً، لم يدّع ما ليس فيه، ولم يجرّب أن يكون متسلّطاً، ولم يتطاوَل على أحد، ولم يرتجل في أي يومٍ كلاماً غير لائقٍ عن الآخرين. أما قيس سعيّد فلا سمْتَ له غير الادّعاء والتعالُم، والنزوع الدبق إلى التسلط، والتجرّؤ على غيره بما لا يجوز له ولا لغيره. لم يُلغ عبد الله بوكرم مؤسّسةً تمثيليةً أو مادّة في الدستور أو برلماناً أو هيئةً أو لجنةً، ليس لأنه لا يقدِر على هذا، بل لأنه يفهم أن الإكوادور ليست مزرعةً لشخصه. وقع البرلمان المنتخب على نقصانٍ فادحٍ في إدارته الدولة، فعزله عن الكرسي في إجراء دستوري، وإنْ للرجل أنصارٌ قالوا إنّ تدبيراً ما قد جرى ضدّه.
عندما يعقد مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع رئيسٍ زائر في بلده (محمود عبّاس) من دون حضور صحافيين، فإنّ قيس سعيّد استحقّ عن جدارةٍ فائض السخرية منه في تونس وخارجها، وقبلها وبعدها، يجيز في مسلكه هذا الشكّ في سلامة أهليّته مقيماً في قصر قرطاج. وعندما يمتنع عن تعيين ناطقٍ باسم رئاسة الجمهورية، فذلك مما يضاعف الشعور الشائع عن عدم طبيعيّة مسلكه العام، وهو ما يتعزّز، بداهةً، عندما تطلب الرئاسة عدم توجيه أي سؤال إلى سعيّد في مؤتمره الصحافي (المشترك؟) مع الرئيس الجزائري. أما عندما يهنئ التونسيين، وهم نيام، بعيد الاستقلال في خطابٍ متلفز يلقيه في هزيعٍ أخيرٍ من الليل، ويحدّثهم في الأثناء عن "الغراب والثعلب" في حكاية الفرنسي لافونتين، فهذا مما يبيح القول إنّ الرجل ليس في سويّة رئيس. وكان قولٌ مثل هذا قد سوّغه قيس سعيّد بنفسه لمّا صوّروه، بطلبٍ منه، وهو يخطّ رسالةً (شاهدناه يوقّعها، ربما احتال علينا وكتبها غيرُه؟)، ثم يعطيها لرسولٍ لإيصالها إلى معنيٍّ بها، وقد جاء فيها من بين ما شرّق وغرّب على شيءٍ من شعر أبي العتاهية. وعندما يقول سعيّد إنّ الدستور (أو ما تبقّى منه) لا يجيز له حلّ البرلمان، ثم يلحس كلامه بعد ثلاثة أيام، فإنّ هذا ليس من ضروب كذب حكّام كاذبين، وإنما هو تجلٍّ لخُيلاء متورّمة في الرئيس يعوزُها علاجٌ ملحّ، تماماً كما الرثاثة التي بدا عليها وهو يقول ما يقول عن نجاح استشارته الإلكترونية.
لا تيسّر المساحة المتاحة هنا سرداً أكثر يدلّ على أنّ عبد الله بوكرم كان فيه رجحان العقل، فيما قيس سعيّد تحتاج تونس إلى عزلِه، بالنظر إلى فقدانه الأهلية العقلية لإدارة البلاد. ولكنْ أنّى يصير هذا، وانعدام الحسّ الديمقراطي والمسؤول في نخبٍ تونسيةٍ عريضةٍ يجعل الحاجة إلى العقل في قصر قرطاج نافلة.