قيامة ريجيني
مألوفٌ أن تَكتُب الديكتاتوريات العسكرية أهازيج الاستقرار الوهمية خلف سياج الخوف، وعلى أنغام نظريات المؤامرة. لكن السلطات المصرية تتفوق على مثيلاتها، في امتلاك ديناميات ومراوغات السرد الوقحة، فبعد أن كان طالب الدكتوراه الإيطالي، جوليو ريجيني (28 عاما)، لحظة مقتله، شريكا في مؤامرة كونية تستهدف الدولة المصرية، أصبح فجأة ضحية، مع نشر السلطات، في مايو/ أيار الماضي، فيديو بعنوان "قصة ريجيني"، يروّج فكرة المؤامرة من منظور آخر، وهو تعرّض الشاب للخطف والقتل، على يد مجموعة من معارضي النظام المحليين، أو التابعين لجهاتٍ أجنبية، بالتزامن مع زيارة وفد إيطالي كبير للقاهرة.
جاءت تلك السردية، شبه الرسمية، قبل أسابيع من أولى جلسات محاكمة أربعة من رجال الأمن المصريين، غيابياً، أمام القضاء الجنائي الإيطالي، في قضية تعذيب الشاب ريجيني ومقتله، وهي الجريمة التي جرت وقائعها في القاهرة في 25 يناير/ كانون الثاني 2016، وأبى الضحية، منذ ذلك الحين، إلا أن يفضح من داخل قبره سِتر مرتكبيها.
وقد شهدت العاصمة الإيطالية روما، في 14 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ثاني جلسات المحاكمة، وهي واحدة من المرّات القليلة التي يُحاسب فيها أمنيون مصريون على جرائم قتل اتُهموا بها، راح ضحيتها آلاف منذ أحداث 3 يوليو/ تموز 2013، لكن الفرق أن قاضي الدائرة الأولى ليس مصرياً، ولا يلتزم بتوجيهات النائب العام، أو توصيات رئيس جهاز المخابرات. وقاعة المحاكمة ليست مسيسة، وبعيدة تماماً عن معهد أمناء الشرطة، وهذا محمل الخطورة.
اختفى جوليو ريجيني الذي كان يقوم بأبحاثه في النقابات العمالية المصرية في القاهرة، في الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير. وبعد تسعة أيام، عُثر على جثته على جانب إحدى الطرق السريعة، وعليها آثار تعذيب مروّع. وألمحت الشرطة المصرية، بداية، إلى أن ريجيني قُتل في حادث سير، لكن علامات التعذيب على جسده، وتعرية جسده للإيحاء، ربما، بوجود دوافع جنسية خلف الوفاة، وما كشف عنه تشريح مدّعين إيطاليين الجثة لاحقاً دحض تلك الرواية المتهافتة، فالطالب أصيب بجراح عديدة وكسرت عدة عظام في جسمه، وتعرّض "لضربات باليد والهراوات والمطارق"، وشملت عمليات التعذيب التي تعرّض لها استخدام كلاب مدرّبة، واﻹيهام باﻹغراق، والعنف الجنسي، حسب ما أفاد شاهد لصحيفة لاريبوبليكا اﻹيطالية. وقضى الضحية بالكيفية التي يموت فيها آلاف في مصر، وسط حصانة قضائية توفرها الدولة للقتلة. ثم سطّرت السلطات سيناريو أكثر سطحية، وزعمت أن عصابة إجرامية من محافظة الشرقية قتلته، وأن الجناة جميعاً: طارق عبد الفتاح، سعد عبد الفتاح، مصطفى بكر، صلاح السيد، إبراهيم فاروق، قتلوا في تبادل لإطلاق الرصاص مع الشرطة، وهكذا انتهت القضية.
تمسّك أسرة الضحية بحق ابنها، فتحا كوّة في جدار الخوف، وكشفا بعضاً مما يلاقيه الضحايا المصريون من أهوال، والذي وصل، نتيجة الصمت، إلى غيرهم
في قضايا محلية مشابهة ومماثلة، كانت هذه النهاية الإفك، تعني إفلات الجناة من المحاسبة والعقاب، لكن البعد الدولي، وتمسّك أسرة الضحية بحق ابنها، فتحا كوة في جدار الخوف، وكشفا بعضاً مما يلاقيه الضحايا المصريون من أهوال، والذي وصل، نتيجة الصمت، إلى غيرهم.
تفتت الخيوط الزائفة وتهافت حكايات التضليل رفعا أسهم القتلة، وربطتهم بمؤسسة الرئاسة، خصوصا مع تنوع الأجهزة السيادية التي شاركت في الجريمة وتعددها، فالسلطة الديكتاتورية، البعيدة عن أي حساب، حاولت أن تدفع فاتورة باهظة لتجاوز أزمة القتل، شملت عروض شراء أسلحة إيطالية، مقاتلات من طراز "يوروفايتر تايفون" متعدّدة المهام، وطائرات "إيرماكي إم -346" للقتال الخفيف والتدريب المتقدّم، ومروحيات من طراز AW149، إضافة إلى قمر للاستطلاع والتصوير الراداري، و20 زورقاً مسلحاً من فئة "Falaj II" لعمل دوريات، وفرقاطتين من طراز "فريم برجاميني"، وهي الصفقة التي اعتبرت بمثابة صفقة القرن.
بعد سنوات من المماطلة، قرّر قاض إيطالي أن هناك أدلة متوفرة وجيدة مقدّمة من الادعاء العام تساعد على تقديم الضباط المتهمين إلى العدالة بجريمة تعذيب الطالب الإيطالي وقتله: اللواء طارق صابر، والضباط حسام حلمي، وآسر كامل محمد إبراهيم، ومجدي إبراهيم عبدالله شريف.
ريجيني ليس الأجنبي الوحيد الذي وقع ضحية للسلطات المصرية، فمنذ يناير 2016، تعرّض الفرنسي إريك لانغ والأميركي جيمس هنري لون للتعذيب والقتل في الحجز
وتبعث المحاكمة رسائل ذات أهمية: أولاً، ليس من الضروري أن يكون الإفلات من العقاب سيد الموقف ونهاية المشهد، يبقى الأمل في استرداد حق ضحايا الانتهاكات وأهاليهم قائماً، وتقديم الجناة للعدالة، مهما طال الزمن. ثانياً، الجريمة التي وقعت بحق جوليو ريجيني مكتملة الأركان، بداية من مراقبته وحصاره، واختطافه، وإخفائه قسريا في مقرّ مباحث أمن الدولة، وتعذيبه لانتزاع اعترافات تدينه، ثم نقله إلى "المخابرات الحربية"، ليتم تعذيبه مجدّداً وحتى مقتله، ثم فبركة مسرح الجريمة وقصص مختلقة عن الوفاة، انتهت في واحدة منها بخمس ضحايا قتلوا بدم بارد. ثالثاً، لا يمكن تجاهل الدور الذي قام به أفراد عائلة جوليو ريجيني، وتحدّوا فيه حكومة بلدهم وبرلمانهم، وفضحوا العلاقات والرشاوى الاقتصادية وصفقات السلاح، ولجأوا إلى القضاء، والدور الإعلامي والسرد المعلوماتي والحشد الجماهيري الضاغط، من أجل الوصول إلى العدالة، واسترداد حق ابنهم القتيل، والدعاية السياسية من قبيل التصريح إنهم في مصر قتلوه كما لو أنه كان مصرياً، ورفعهم سقف مطالبهم، وعدم رضوخهم للمساومات. رابعاً، أهمية الدور الاستراتيجي الذي يمكن أن تقوم به المنظمات الحقوقية في رصد الانتهاكات وتوثيقها، ومتابعة الجناة ومحاصرتهم وملاحقتهم، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب، وإنْ طال الزمن، فالعمل من أجل المعتقلين يجب أن يتعدّى مرحلة حضور الجلسات وإيصال الطعام والملابس ودفع الكفالات إلى فضح الأدوار وتشديد الخناق حول الجناة، وخنقهم بجرائمهم. سادسا، لا أحد يصدّق الدولة المصرية بقضائها، وأجهزة أمنها، وتصريحات قياداتها السياسية وأكاذيبهم، حتى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وصف الرئيس المصري مراراً بالقاتل، على الرغم من إعجابه بنموذجه الديكتاتوري، لكن وصول قضية ريجيني إلى المحاكمة العلنية العادلة، بدون أقفاص عازلة للصوت، وأدوات للقهر وبث الخوف، يعني أن كرة الثلج بدأت في التدحرج، وأن هذه القضية يمكن أن تكون المرتكز والبداية التي تؤسّس لإزالة تعهّد النظام بإسباغ الحماية على ضباط أمن الدولة والاستخبارات الحربية ومرتكبي الانتهاكات داخل السجون ومراكز الاحتجاز، من أجل استمرارها، وأنها لا يمكن أن تدوم.
قامت قيامة ريجيني، ولو أغلقت مصر رسمياً تحقيقها في وفاته، ولو رفضت تسليم المشتبه بهم الأربعة
بعد ما يقارب خمس سنوات على موته، حدّدت لائحة الاتهام الصادرة عن المدّعي العام في روما، في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020، المسؤولين الأربعة الكبار، عن مقتله، وطاردتهم دماؤه وهو في قبره، وربما أصاب زلزاله الدولة المصرية في مقتل. ومثّل سابقة يمكن أن تبنى عليها وسائل تفعيل آليات المساءلة الدولية للقتلة، لطالما أغُلقت أبواب العدالة في وجوه الضحايا في الداخل.
قامت قيامة ريجيني، ولو أغلقت مصر رسميًا تحقيقها في وفاته، ولو رفضت تسليم المشتبه بهم الأربعة، إذ كيف يتوقع أن يسلم الديكتاتور قياداته الأمنية، فيضعف صكّ حمايته شركاء جرائمه، وتنهار أسوار أسرار بمذابح وجرائم قتل خارج إطار القانون وانتهاكات. وبحسب تقرير لمنظمة كوميتي فور جاستس فإن ريجيني ليس الأجنبي الوحيد الذي وقع ضحية للسلطات المصرية، فمنذ يناير/ كانون الثاني 2016، تعرّض الفرنسي إريك لانغ والأميركي جيمس هنري لون للتعذيب والقتل في الحجز.
ربما مرّت تلك الجرائم، لكن دماء ريجيني أبت أن تجفّ، وروحه أبت أن تتوقف عن الكفاح، وتستسلم للقتلة البربريين. لقد استشعر ريجيني عند وصوله إلى القاهرة، في نهاية 2015، أن الوضع كئيب. لم يكن يرى أي تهديدٍ على حياته، وكان يعتقد أن أسوأ ما يمكن أن يحدُث له هو ترحيله قبل أن يتمكّن من إنهاء بحثه. لم يكن يعلم بوجود شبكة من المخبرين حوله، تضم زميلته المقرّبة الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد، ونقيب الباعة الجائلين محمد عبدالله، ولا أن والدته بعد أسابيع ستجد صعوبةً في التعرف على ملامح جثمانه.