قواعد اللعب الانتخابي‮ ‬وثورة التوافق في المغرب

06 يوليو 2021
+ الخط -

على بعد أسابيع قليلة من الامتحان التشريعي‮ في المغرب‬،‮ ‬رأى كثيرون في‮ ‬فشل الاتحاد الوطني‮ ‬للشغل،‮ ‬الذراع النقابي‮ ‬لحزب‮ العدالة والتنمية‮‬،‮ ‬مقدمة لهزيمة سياسية تنتظر هذا الحزب الإسلامي‮ ‬الذي‮ ‬يقود‮ المغرب منذ الربيع العربي عام 2011، فهذه النقابة التي‮ ‬كانت توجد ضمن كوكبة النقابات الأكثر تمثيلية في‮ ‬المغرب‮ ‬فشلت في‮ ‬الحصول على العتبة،‮ ‬أي‮ ‬الحدّ الأدنى من نسبة الأصوات‮ ‬التي‮ ‬تجعلها محاوراً للحكومة في‮ ‬مقبل الأيام،‮ ‬وحاضرة في‮ مؤسسات عدة، مسماة‮ "مؤسسات الحكامة‮"‮ ‬ذات الصلة الوثيقة بعالم الشغل والحقوق العمالية والمشاركة في‮ ‬القرار‮.‬
‮‬وللذين‮ ‬يقرأون الفنجان السياسي‮ ‬المغربي‮ ‬بعض الحظ في‮ ‬الصواب، بخصوص تأثير التصويت النقابي‮ ‬على التصويت السياسي،‮ ‬إذ إنّ الفئات المعنية بالتصويت الأول‮ ‬ذات علاقة بالوظيفة العمومية، أي‮ ‬بالعمود الفقري‮ ‬للإدارة،‮ ‬وما تمثله داخل الدولة‮. ‬ويزيد في‮ ‬صدقية النبوءة المبشرة بالهزيمة أنّ تدبير (إدارة) الأوضاع في‮ ‬القطاع الخاص‮ ‬ليس في أحسن حال بالنسبة للحزب الذي‮ ‬يقود الحكومة منذ عقد. ولا‮ ‬يخفى ‬عن الباحث والمتتبع أنّ جزءاً من طبقة‮ "‬المال والأعمال‮" ‬ساندت حزب العدالة والتنمية‮ ‬في‮ ‬الاستحقاقات السابقة، بل عرفت المناطق‮ ‬السكنية والأحياء الراقية في‮ ‬مدن كبرى حضوراً لافتاً للتصويت الإيجابي‮ ‬لهذا الحزب ‬الذي‮ ‬تشكل‮ هويته الاجتماعية ‬جزءاً من الطبقة الوسطى‮.‬ وهي‮ ‬نفسها،‮ ‬التي‮ ‬انتقلت من الانحياز الواضح من اليسار الوطني،‮ ‬ثم اليسار الديمقراطي‮،‮ ‬وأخيراً، إلى التمدّد الإسلامي‮ ‬في‮ ‬العشريتين الأخيرتين، لأسبابٍ‮ ‬يطول شرحها‮.

الأحزاب التي‮ ‬مرّت بالسلطة،‮ ‬تنازعتها الصراعات الداخلية بشكلٍ أدّى إلي‮ ‬تفجيرها أو تقزيم حضورها أو انشغالها بمآلات نخبتها، عوض تحوّلات المجتمع

‮ولا‮ ‬يعزز التصويت العقابي‮ ‬داخل الأوساط الوظيفية‮ ‬وحده ‬توقعات المتوقعين بتراجع الإسلاميين في‮ ‬الاستحقاقات المقبلة،‮ ‬بل‮ ‬يستنبط هؤلاء احتمالات التصويت في القوانين المتعارف عليها في‮ ‬السياسة،‮ ‬ومنها قانون‮ "‬تآكل الشعبية والإنهاك ‬الذي‮ ‬تتسبب فيه السلطة‮".‬ ويدفع هذا الرأي‮ ‬بأنّ السلطة،‮ ‬وممارستها‮،‮ ‬على مستوياتٍ متعدّدة، محلية وجهوية ووطنية، تكون قد نالت‮ ‬من الحزب الأول في‮ ‬التعددية السياسية المغربية،‮ ‬وهو قانون تقرّه الثقافة السياسية،‮ ‬وشبكة القراءة لكلّ عرض سياسي،‮ ‬وبمعنى أنّ التآكل هو قانون شبه فيزيقي‮ ‬في‮ ‬الهزيمة السياسية‮. وقد خضعت له أحزاب في‮ ‬كلّ الدول،‮ ‬ومنها أحزاب ذات عراقة أكبر من الحزب الإسلاموي،‮ ‬من قبيل حزبي‮ ‬الاستقلال،‮ ‬وحزب الاتحاد الاشتراكي‮ ‬للقوات الشعبية‮.‬
وبقراءة الحالة المغربية،‮ ‬نجد بالفعل أنّ هذا القانون، المتعارف عليه في‮ أدبيات التحليل السياسي،‮ ‬ترافق عادة مع تفسخ تنظيمين وتآكلهما، ومع تفكك عضوي،‮ ‬ما سهل الهزيمة‮، فقد حدث أنّ الأحزاب التي‮ ‬مرّت بالسلطة،‮ ‬تنازعتها الصراعات الداخلية بشكلٍ أدّى إلي‮ ‬تفجيرها أو تقزيم حضورها أو انشغالها بمآلات نخبتها، عوض تحوّلات المجتمع‮. ‬
والواقع أنّ الطاحنات كادت أن تكون أكثر وقعاً،‮ ‬في‮ ‬قضيتين واجههما الحزب،‮ من دون تشقّقات كبرى في‮ ‬بناه: قانون تقنين استعمالات‮ "‬القنّب الهندي‮" ثم توقيع أمينه العام،‮ ‬ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني‮، على الاتفاق ‬بين المغرب وأميركا وإسرائيل‮.‬ وقد استطاع الحزب،‮ ‬على الرغم من القوة الارتدادية للموضوعين من أن‮ ‬يحافظ على وحدته،‮ ‬بتفضيل وحدته على تطبيع علاقاته النهائية مع الوسط السياسي‮ ‬المغربي‮.‬

القاسم الانتخابي‮ ‬انتقل من حساب النتيجة على أساس المصوتين الى احتسابه على أساس‮ ‬المسجلين

‮وبلغة الخطباء المالكية‮ "‬لقد فضل الوحدة حول معتقد سياسي‮ ‬خطأ ‬على التفكك مع معتقد صحيح‮"‬ غير أنّ الاكثر أهمية في‮ ‬قراءة المستقبل القريب جداً لهذا الحزب أو ذاك‮ ‬هو تغيير قواعد اللعبة الانتخابية‮، إذ انتقل النظام الانتخابي‮ ‬من لائحي،‮ ‬في‮ ‬المدن التي‮ ‬يفوق فيها عدد السكان ثلاثين ألف نسمة ‬الى خمسين ألف نسمة،‮ ‬وهو ما‮ ‬يعني‮ ‬العودة إلى النظام الفردي ‮(‬نظام الدوائر الفردية‮) ‬عوض النظام اللائحي،‮ ‬الشيء الذي‮ ‬يقلِّص من هيمنة الأحزاب القوية،‮ ‬ويُفسح لعلاقات القرب بأن تنتج نخبتها الجديدة من بعض الأحزاب المتوسطة أو الصغرى‮. ‬
كما أنّ القاسم الانتخابي‮ ‬انتقل من حساب النتيجة على أساس المصوتين الى احتسابه على أساس‮ ‬المسجلين‮،‮ ‬وهو ما يعني‮ ‬أنّ كلّ حزب‮ ‬يمكنه الحصول على مقاعد،‮ ‬إذا سمح له ترتيبه أن‮ ‬يكون ضمن الخانة المخصّصة في‮ ‬كلّ دائرة تشريعية‮.‬ وبلغة أكثر وضوحاً،‮ ‬لن‮ ‬يكون في مقدور أيّ‮ ‬حزب أن‮ ‬يحوز مقعدين أو ثلاثة‮ في‮ ‬كلّ دائرة‮، كما كان حال حزب‮ ‬العدالة والتنمية‮، ‬ثم‮ ‬الأصالة والمعاصرة‮‬،‮ ‬في‮ ‬الانتخابات السابقة‮.‬ وقد وضع "العدالة والتنمية" نفسه في‮ ‬مواجهة كلّ الطبقة السياسية،‮ ‬بخصوص قضية القاسم في‮ ‬المنظومة الانتخابية،‮ ‬كما فشل في‮ ‬إقناع المحكمة الدستورية بمرافعاته ‬التي‮ ‬ترى في‮ ‬اعتماد البرلمان له،‮ ‬بعدما قدمته الحكومة التي‮ ‬يقودها ‬باعتباره ‬غير ديمقراطي‮ ‬ويتناقض مع الدستور‮ (انظر مقال الكاتب "عزلة سياسية بقفل دستوري‮" في "‬العربي‮ ‬الجديد").‬

ما قد‮ ‬يؤثر في‮ ‬التشريعيات وشرعيتها نسبة التصويت والمشاركة،‮ ‬وأدوار‮ "‬المنشّطات‮" ‬المالية والإحسانية فيها

لقد تغيرت قواعد اللعب،‮ ‬بما‮ ‬يعني‮ ‬تغير نتائجها،‮ ‬ومن الوارد أنّ حزب‮ ‬العدالة والتنمية‮ ‬سيتأثر سلباً، إلى حدّ كبير، بمجريات‮ ‬الدينامية السياسية،‮ ‬وهناك من الآن تصوّرات لمن سيعوضه،‮ ‬أو على الأقل نزوعات متباينة بين الأحزاب التي‮ ‬ترى نفسها في‮ ‬مقصورة قيادة التحول المقبل.‬ لكنّ‮ ‬المؤكّد أنّه لن‮ ‬ينتهي‮ ‬الى مؤخرة الترتيب الانتخابي،‮ بل قد‮ ‬يحافظ على ريادته‮، من ‬دون هيمنة‮!‬ كما أنّ أكثر ما قد‮ ‬يكون مفيداً لتوازنات المرحلة المقبلة وجود كوكبة من الأحزاب‮ ‬في‮ ‬صدارة الترتيب، عوض‮ ‬هيمنة‮ ‬قوة أو قوتين‮ ‬فقط،‮ ‬ضمن ما‮ ‬يسميه قادة اليسار الاتحادي‮ "‬القطبية المصطنعة".
ويبقى ما قد‮ ‬يؤثر في‮ ‬التشريعيات وشرعيتها نسبة التصويت والمشاركة،‮ ‬وأدوار‮ "‬المنشّطات‮" ‬المالية والإحسانية فيها،‮ ‬ما قد‮ ‬يفقد النخبة الحزبية السياسية فرصةً من ذهب في‮ ‬إعادة الاعتبار للسياسة والمشاركة في‮ "‬ثورة بالتوافق‮" ‬يقودها الملك،‮ ‬من أجل نموذج تنموي‮ ‬جديد،‮ ‬ومن أجل تغطيةٍ اجتماعيةٍ‮ ‬غير مسبوقة في‮ ‬البلاد،‮ ‬وتغيير‮ "‬براديغمات‮" (نماذج) ‬الالتزام السياسي،‮ ‬وسط جو من انعدام الثقة والتشكك في‮ ‬قدرة النظام الحزبي‮ ‬المغربى على التطوّر والتجرّد الأخلاقي‮ ‬المطلوب‮.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.