قواعد العشق الأربعون
في خمسمئة صفحةٍ ونيّف، جاءت رواية "قواعد العشق الأربعون" للأديبة التركية (العالمية)، إليف شافاق، المولودة في فرنسا 1971، بترجمة سلسة ومتقنة من خالد جبيلي (دار طوي للثقافة والنشر والإعلام، لندن، 2012)، وهذه مناسبة للإشادة بهذا المترجم الذي يبرز بين المترجمين عن الإنكليزية بوفرة إنتاجه، وحسن اختياره الأعمالَ التي يتقدم لترجمتها. "قواعد العشق الأربعون" من الأعمال الأدبية التي يتهيّب المرء من الدخول في عالمها، لضخامة حجمها، ثم لا يستطيع أن يركنها جانباً حتى يبلغ آخر كلمة فيها، لأنها قطعة أدبية فلسفية، متقنة هندسةً وبناءً وإكساءً ولغةً وأحداثاً.. كل ما فيها جديد ومبتكر.
في أحد حواراتها الصحافية، تشير إليف التي تحمل كنية والدتها شافاك، إلى قول المتصوّف محيي الدين بن عربي إنه سيبحث عن دين الحب أينما كان، حتى ولو كان عند اليهود أو النصارى أو المسلمين. وربما لهذا السبب اختارت الكاتبة، للمستوى الواقعي من روايتها، أسرةً أميركية يهودية، وتمكّنت، ببراعة استثنائية، من ربط الواقعي بالتاريخي، إذ جعلت ربةَ الأسرة اليهودية، أيلا، تعمل قارئة نصوص أدبية لدى مؤسسة نشر أدبية، وأول عمل يُعرض عليها لتقييمه رواية بعنوان "الكفر الحلو" تتناول حياة المتصوفة الإسلاميين في القرن الثالث عشر، (كانوا يُتَّهَمون بالزندقة والكفر). وتركز، بشكل خاص، على جلال الدين الرومي الذي كان يعيش في مدينة قونية التركية، ويسميه الأتراك "مولانا"، والدرويش الفيلسوف الذي جاء ليشاركه حياته وتجربته الصوفية شمس الدين التبريزي.. وبصفاء، يشبه صفاء القلوب المتعلقة بحب الله، تبدأ علاقة حب (بالمراسلة، ثم تصبح واقعية) بين أيلا وكاتب الرواية عزيز الذي كان مسيحياً وأسلم، وتصوّف.
تقود إليف شافاق دفّة أحداثها الروائية كما لو أنها بحّار قوي يصارع لجج الأمواج، أو كأنها سيناريست يؤلف فيلماً سينمائياً عظيماً، يبدأ بإلقاء حجر كبير في بحيرةٍ سطحُها ساكن، وأعماقُها ملأى بالتباينات والتناقضات.. فمن خلال قراءة أيلا مخطوطَ رواية عزيز، نعرف كل شيء عن ذلك الحدث التاريخي العظيم، المتمثل باجتماع رجل دين رزين، مستقرّ العلم، مصنّف في علية القوم، ذي شهرة واسعة وشعبية كبيرة اكتسبهما من خلال خطاباته الدينية، هو مولانا جلال الدين الرومي، مع درويش متصوّف تقع فلسفته على الضفة الأخرى من الفكر الديني السائد، ضفةِ الناس المقهورين، المسحوقين، المظلومين.. فبعض الناس الذين يعيشون في الحانات والمواخير يمتلكون نفوساً إنسانية طيبة، لكنها مطمورة في أوحال الخطايا، وهم يرزحون تحت وطأة نظرة المجتمع التي تحتقرهم.. هذا اللقاء، بل الاندماج، أدّى إلى جعل شخصية مولانا الرومي تصفو، وتعتدل، وتتوازن، وتكتمل، فمن خلال حب الله يحب الإنسان كل الناس، ويسعى إلى مساعدتهم، وإعادتهم إلى إنسانيتهم، بدلاً من التعالي عليهم واحتقارهم.
لا يُشترط بكاتب النص الدرامي العظيم أن يخترع أزماتٍ ومشكلاتٍ وتناقضاتٍ ليفتعل صراعاً درامياً يخدم فيلمه، إذ إن هذه الأزمات والتناقضات موجودة أصلاً، وما عليه إلا أن يرصد الجوهريَّ منها الذي ينشأ عن إلقاء الحجر على سطح البحيرة. فأيلا المرأة، الواقفة على أبواب سنّ الأربعين، المتماسكة، التي تحافظ على استقرار أسرتها، حتى من خلال سكوتها عن مغامرات زوجها العاطفية، المعارضة زواج ابنتها بشاب مسيحي، يعصف بها هذا النوع من الحب، حتى لتترك كل شيء، وتتبع حبيبها المصاب بمرضٍ عضالٍ إلى حيث يموت في قونية، و"التبريزي" يعرف أن الموت ينتظره من مغامرته، ومع ذلك يقدم عليها، لأن رسالته الإنسانية تستحق التضحية من أجلها، بالإضافة إلى أن هذه الرسالة تولّد من القلق الروحي ما يكفي لأن يستخف بالأخطار.. وهذا ما حصل، فقد نجحت التجربة في إشاعة مناخ إنساني يلخص مقولة ابن عربي، ولكن هذا العمل الكبير لا يمكن أن يمرّ من دون عقوبة، أو ثمن، وهو: موته مقابل ما حقق للآخرين من حياة.