قواعد الحكم الأساسية في تجربة قيس سعيّد الرئاسية

20 مايو 2024

الرئيس التونسي مجتمعا مع مجلس الوزراء في قصر قرطاج (15/10/2022 الأناضول)

+ الخط -

بعيداً عن الشعارات التي رفعها الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في مسيرته الانتخابية الطويلة التي انطلقت سنة 2011، وتوّجها بالفوز في الانتخابات الرئاسية سنة 2019، على غرار شعار حملته الانتخابية "الشعب يريد" وترجمته فيما يسمّى البناء القاعدي، ومقولتي الصلح الجزائي والشركات الأهلية، وما تلا ذلك من أفكار وقع توليدها من سجالات الرئيس ومناكفاته وصدامه السياسي مع الأغلبية الساحقة من مكونات المجتمع السياسي والمدني والإعلامي، بما في ذلك من سانده عشيّة فوزه بكرسي الرئاسة سنة 2019، وعند لحظة 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، إيمانا بالتغيير والإصلاح من داخل منظومة الثورة التونسية، فإن تجربة قيس سعيّد في الحكم التي تبلغ موفّاها يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 باتت قابلة للتقييم والفهم والتفكيك، وتحديد مقولاتها الفكرية ومرتكزاتها السياسية وقواعدها وخلفيات صاحبها وأعمدة رؤيته المجتمعية.
العلاقة العمودية بين الحاكم والشعب:

يوجد تشابه بين تمثّلات الرئيس التونسي قيس سعيّد للعلاقة بينه وبين شعبه، والعلاقة بين الله والبشر، فهي عمودية مباشرة. في العلاقة الإلهية - البشرية ينتفي الوسائط والوسطاء، ويبلغ الأمر لدى طيفٍ من الفقهاء حدّ تكفير الأولياء الصالحين والطرق الصوفية، كما تذهب إلى ذلك الوهابية، واعتبارهم مشركين لأنهم يقولون بالوسيلة ويؤمنون بأن التوسّل لله يمكن أن يكون عن طريق بشر آخرين. 
يبدو أن الرئيس سعيّد قد أغرته هذه الفكرة، فنبذ في تجربة حكمه كل الوسطاء والمتوسّلين السياسيين وغير السياسيين، من أحزاب سياسية ونقابات عمالية واتحادات مهنية وجمعيات مدنية ووسائل إعلامية، وكل من له تمثيلية لفئة اجتماعية أو شريحة ثقافية أو قوّة شعبية، فهو لم يجالسهم إلا اللمم، ولم يستشرهم في قضايا الشأن العام، ولم يصطف من بينهم الوزراء والمستشارون والسفراء والقناصل والولاة وقادة الدولة الأوائل، ولم يستمع إلى مقترحاتهم، ولم يحضُر منابرهم الإعلامية طوال السنوات الخمس من ولايته الرئاسية إلا فيما ندر. فهو لا يخاطب الشعب عن طريق هؤلاء الوسطاء، مهما بلغ حجم شعبيتهم، ولا يستمع إلى رجع صداه عن طريقهم، فالوساطة لديه نوع من التدنيس للعلاقة النقية بين "القائد الملهم" و"الأمّة" المتعطشة إلى أقواله وخطاباته الرنانة التي تنتظرها الجماهير التونسية كلّ ليلة بلهفة لا نظير لها تترجمها متابعة صفحة فيسبوك الرئاسة، حسب ما يتناهى إلى أسماع الرئيس من خُلّانه ومقرّبيه. بل إن الأجسام الوسيطة والوسطاء بفئاتهم وشرائحهم ومختلف تنظيماتهم، في المسكوت عنه من خطاب الرئيس، هم رجزٌ وجب أن يُهجر، ولذلك لم يهدر سعيّد فرص شيطنتهم والعمل على بناء صورة سيّئة حولهم في المخيال الفردي والجماعي للرأي العام التونسي.

نبذ سعيّد في تجربة حكمه كل الوسطاء والمتوسّلين السياسيين وغير السياسيين، من أحزاب سياسية ونقابات عمالية واتحادات مهنية وجمعيات مدنية ووسائل إعلامية

وبما أن الرئيس سعيّد لم يجتمع مع شعبه بصفة مباشرة، إلا من بعض الزيارات غير المعلنة إلى شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة وبعض الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية، وأغلبها ليلاً، تيمناً بنموذجه المثالي الخليفة عمر بن الخطاب، كما ذكر هو في أكثر من مناسبة، ولم يسجّل في رصيده افتتاح مؤتمرات علمية أو حضور تجمّعات طلابية أو عمالية أو مهرجانات ثقافية أو الإشراف على منتديات اقتصادية أو تنظيم مؤتمرات صحافية ومقابلات إعلامية، أو اختتام تظاهرات رياضية أو فنية أو أكاديمية، كما يفعل الرؤساء والحكام في كل أصقاع الكرة الأرضية، وكما هو مدوّن في سجل من سبقوه ممن تولّوا المهمة الرئاسية التونسية. فإن المطالب الشعبية يستلهمها الرئيس من آلام الشعب وآهاته ومعاناته بصفة مباشرة، إنه الحلول كما يقول المتصوّفة، حلول الأنا الرئاسية في الذات الشعبية، والعكس صحيح، ففي الرئيس يكمن الشعب، وفي الشعب يتجلّى الرئيس، وبمجرّد أن يدعو الشعب رئيسه، فإن هذا الأخير يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. وكما أن الدعاء هو وسيلة لتقرّب العبد من ربه، فهو أيضا وسيلة لاقتراب الشعب من رئيسه الذي لا يمكن له أن يخذله أو يردّ له طلباً. إن الدعاء هو وسيلة من وسائل الاتصال السياسي الناجعة والمفيدة والنقية التي تنبني عليها علاقة الحاكم بالمحكوم في الجمهورية التونسية الجديدة. لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فلسان حال الرئيس يقول أنا كذلك لدي كتاب خطّته يميني، هو دستور 2022، لا شريك لي في كتابته، بين طيّاته نُتف من المجالسية الماركسية وطرح الخلافة الإسلامية ونصوص فترة البايات الحسينية والنزعة المقاصدية والحقوق الأوروبية والنظرية المكافيلية وتسلطية الدولة الشرقية، وفصول من دستور الفترة البورقيبية والتنقيحات البعلية،  يتضمّن الشرائع الواجب على أبناء الشعب اتباعها للوصول إلى الكمال أي إلى التطابق بين الشعب والرئيس، والرئيس يحاسب كلّ من يخرج عن التعاليم الموضوعة في هذا الكتاب (الدستور) بينما لا يحاسبه ولا يسائله أحد أثناء القيام بمهماته ووظائفه وبعد انتهائها ومغادرة كرسي الحكم كما نص كتابه، بصريح القول، في الفصل عدد 110، فهو يُسائل الآخرين ولا يُسائله أحد. وينطبق هذا الأمر على علاقته بحكوماته ووزرائه وولاته، إذ يمكن للرئيس أن يختار من يشاء من الأشخاص لتلك المهمات وإقالتهم وإعفاءهم من مناصبهم متى راق له ذلك. لا يحقّ لأي كان أن يسأل الرئيس عن أسباب التعيين في الوظيفة وعوامل التنحية منها، بالرغم من الإهانة والتحقير اللذين يُلحقهما ببعض وزرائه المقالين، والممنوعين من الكلام في الوقت نفسه، واستعمالهم مصعداً لترميم شعبيته المتآكلة، فهو فوق السؤال لا يخطئ في اختياراته، ويعرف مصلحة شعبه أين تكمن، ولا حاجة للشعب إلى أن يطّلع على خفايا الحكم وأسراره، لأنه في أيادٍ أمينة منزّهة عن الخطأ والضلال، ومعصومة من الوقوع في صغائر وكبائر الآثام.

الصورة
احتجاج ضد سعيد

تونسيون في احتجاج في العاصمة على قرارات الاعتقال التي تنفذها إدارة الرئيس قيس سعيّد (25/7/2023/Getty)

حكومة ضعيفة لا حول لها ولا قوّة:

ليس من باب المصادفة أن يكون اختيار قيس سعيّد نجلاء بودن على رأس أول حكومة منسوبة للرئيس بصفة حقيقية، بعد 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، شاع في البداية اسم محافظ البنك المركزي آنذاك، مروان العباسي، ليتولّى المهمة حسب ما رشح من مجلس إدارة تلك المؤسسة. وأُشيع كذلك أن نادية عكاشة مديرة الديوان الرئاسي سابقا كانت تنتظر من الرئيس أن يعيّنها في ذلك المنصب، وكانت بصمتها على أسماء بعض الوزراء جلية، ناهيك عن أنها كانت وراء تسمية هشام المشيشي في الخطّة نفسها، بعد أن جاءت به قبل ذلك مستشارا لدى رئاسة الجمهورية. ولكن الرئيس اختار لأهم ثاني منصب في الدولة التونسية شخصية ضعيفة لم تمارس السياسة والعمل السياسي في حياتها ألبتّة، بالرغم من أن المعنية كانت أستاذة تعليم عال في الجيولوجيا وتولت مهمات إدارية رفيعة في وزارة التعليم العالي. وبعد نحو سنتين من مزاولة بودن مهمتها رئيسةً للحكومة التونسية، جرى استبدالها، بدون تفسير أو تبرير، بأحمد الحشاني، الذي لا يقلّ ضعفاً عن بودن، وقد قضّى حياته المهنية موظّفاً مغموراً في إدارة الشؤون القانونية والنزاعات في البنك المركزي التونسي، ثم أُحيل على شرف المهنة خمس سنوات قبل أن يجتبيه سعيّد للمهمّة العليا في الدولة، واضعا حدّاً لما يشاع عن صراع حادّ تدور رحاه بين جناحين في الحكومة، يقود الأول وزير الداخلية ويتزعّم الثاني وزير الشؤون الاجتماعية حول المنصب نفسه. 
وبالأسلوب نفسه، جرى اختيار كل وزراء الحكومة التونسية، فأغلبهم موظّفون إداريون، والفئة القليلة المتبقية منهم ينتمون إلى من يسمّون "أبناء المشروع"، من أعضاء تنسيقيات الرئيس وحملته الانتخابية سنة 2019. اللافت في سيرة هؤلاء الوزراء أيضا انعدام أي تجربة سياسية لديهم، ولا يُعرف لأغلبهم انتماء أو تاريخ أو نضال سياسي أو مدني، عادة ما يمارسون عملهم في صمت ومقاطعة تامة لوسائل الإعلام، وإن تكلّم بعضهم فمن باب الضرورة عند دعوتهم من البرلمان، وبعد انتهاء مهمات من يقيله الرئيس، فإن الإمساك عن الكلام ومغادرة الحياة العامة يكون ديدنه. كان اختيار سعيّد كلّاً من بودن والحشاني في مهمّة رئيس الحكومة، وكذلك جلّ وزرائه، ممن لا موقف لهم ولا رأي فلا يُسمع لهم ركز، ما يدلّ على ضعف في الشخصية وخلوّ السيرة الذاتية من الخبرة السياسية، كان مدروسا، ذلك أن الجهل بالعمل السياسي ونواميسه وقيمه، وكذلك توفر مقوّمات الشخصية المطيعة، وانعدام الكاريزما، باتا من الخصائص التي تؤمّن لأصحابها تولي الوظائف في أعلى هرم الدولة. الكاريزما الوحيدة المستحبّة في تونس بعد "25 جويلية" (2021) هي كاريزما الرئيس قيس سعيّد وحده، ولا نجومية سياسية في وسائل الإعلام التونسية ونظيرتها الاتصالية سوى نجومية الرئيس.

استعمل سعيّد في البداية التنظيمات النقابية والمدنية والحقوقية والإعلامية حين كانت الحاجة ملحّة إليها للوصول إلى كرسي الرئاسة سنة 2019

مناهضة فكرة التنظيمات ووجود الأحزاب السياسية:

لا يرى الرئيس سعيّد حرجاً في العودة بتونس إلى ما قبل ظهور التنظيمات التي عرفتها الإمبراطورية العثمانية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، "القائمة على فكرة المماهاة مع التحديث كما وعته النخب التركية والإيرانية والعربية وكان يعني نقل معطيات الحداثة السياسية الأوربية إلى مؤسسات الدولة وإدارتها"، على حدّ تعبير المؤرّخ اللبناني وجيه كوثراني في ورقته "التنظيمات العثمانية والدستور: بواكير الفكر الدستوري" المنشورة بمجلّة تبيّن الصادرة سنة 2013 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ولم يستوحش سعيّد العمل على قتل الأحزاب السياسية، بالطرق الناعمة والزجرية، رغم عراقة نشأتها، فقد عرفتها تونس سنة 1920 مع ظهور الحزب الحرّ الدستوري التونسي على يد الشيخ والزعيم عبد العزيز الثعالبي قبل 104 سنوات، وكان لها الفضل في قيادة وتنظيم حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار الفرنسي وبناء الدولة الوطنية وممارسة دور الضبط السياسي للحياة العامة والنضال من أجل التعدد والديمقراطية، وذلك حتى تصدق مقولته التي وردت في حوار تقدّم به إلى جريدة الشارع المغاربي سنة 2019 من أن الأحزاب السياسية آيلة للاندثار وقد انتهى دورها.
استعمل سعيّد في البداية التنظيمات النقابية والمدنية والحقوقية والإعلامية حين كانت الحاجة ملحّة إليها للوصول إلى كرسي الرئاسة سنة 2019، ثم لتثبيت سلطاته والاستفراد بالحكم عشية 25 جويلية 2021. وكذلك فعل مع الأحزاب السياسية القومية واليسارية والدستورية والليبرالية المعارضة لحكومة هشام المشيشي والمناوئة لحركة النهضة الإسلامية ورئيسها رئيس البرلمان التونسي آنذاك، راشد الغنوشي. 
وبعد ذلك التاريخ، أصبحت لقاءاته مع قادتها تعدّ على أصابع اليد الواحدة كلّما اقتضت حاجته إليها، إلى أن اختفت نهائيا من جداول أعماله مثل تلك اللقاءات. مارس سعيّد سياسة العصا والجزرة مع التنظيمات المدنية والأحزاب السياسية، فمن ناحيةٍ، قام بتشريك من والاه منها في حوار وطني صوري من أجل وضع دستور جديد بدلاً من دستور سنة 2014، تبيّن فيما بعد أن ذلك الحوار كان مجرّد مسرحية هزلية، فالدستور الحقيقي أُعدّ سلفاً، وكان على طاولة الرئيس قبل انطلاق الحوار المزعوم.

الأمن بمعنييه، البوليسي والاستخباراتي، هو من يصنع السياسة والشخصيات السياسية وليست السياسة من تحدّد للأمن مربّعه الذي يشتغل فيه

بالتوازي مع ذلك الخيار، جرى حظر النقابات الأمنية، وأُغلقت أبواب التفاوض، وحتى التواصل مع نظيراتها المدنية ومختلف القوى الحزبية بأي شكل، وهذا ما حصل مع الاتحاد العام التونسي للشغل والنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والهيئة الوطنية للمحامين بتونس والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ومع كل أحزاب الموالاة سرّاً أو علناً لمنظومة "25 جويلية". لتنطلق رحلة المحاكمات والسجون مع قادة سياسيين ونقابيين وإعلاميين ومدوّنين على خلفية مواقف صدعوا بها أو تدوينات خطّها بعضهم. وقد مهّد سعيّد لمناوئته التنظيمات المدنية ومختلف الأجسام الوسيطة، وخاصة الأحزاب السياسية، دستورياً وقانونياً، فجعل منها مجرّد جُمل عارضة في دستور 25 جويلية 2022، ما لا يمكّنها من ممارسة السلطة كلّياً أو جزئياً، وحوّل المرسوم المنظم للأحزاب السياسية التونسية لسنة 2011 الذي يعطي أحقّية ممارسة الحكم والتداول عليه عن طريق الانتخابات للأحزاب السياسية إلى قانون مهجور لا أثر له ولا فاعلية في إدارة الشأن العام. ذلك أن تنظيم الانتخابات على الأفراد عوضاً من القوائم الحزبية، وإبعاد الأحزاب عن ممارسة الحكم، سينتهي بها إلى العطالة السياسية، ومن ثمّ فقدان جمهورها، الأمر الذي قد يؤدّي إلى موتها واندثارها. كانت مقاربة سعيّد على درجة عالية من الدهاء والمكر السياسي، فالرجل يعلم أن الفرد مهما بلغ حجم الكاريزما التي يتمتّع بها لا يمكنه أن يكون ناجعاً في معارضته السلطة والرئيس، أما التنظيمات والأحزاب فتمتلك القدرات على إطاحته بالطرق القانونية عن طريق الانتخابات وبالوسائل المشروعة عبر تعبئة الشارع الاحتجاجي وتوسيع دائرة فعله، كما كان الأمر مع نظام بن علي سنة 2011. هذا دون نسيان الخيار الزجري في التعامل مع بعض الأحزاب والجبهات السياسية، والأمر في هذه الحالة يتعلّق بحركة النهضة الإسلامية التي لم يمنعها سعيّد من النشاط، لكنّه ضيّق قدر الإمكان على أنشطتها بالزجّ بقادتها البارزين في السجون، وحظر عليها استعمال مقارّها بأمر من وزير الداخلية، لا سيما مقرّها المركزي بالعاصمة الموضوع تحت المراقبة الأمنية المستمرّة. ونفس الشيء ينطبق على جبهة الخلاص الوطني المعارضة التي حُجِر عليها استعمال مقارّ الأطراف المشاركة فيها بإقليم تونس الكبرى.

الصورة
مظاهرة ضد سعيد
تونسيون يتظاهرون ضد الرئيس قيس سعيّد في العاصمة (14/1/2024/Getty)

خيار الدولة الأمنية والاستعلام على المجتمع السياسي:

كشف قرار ختم البحث (64 صفحة) وما صاحبه من استخلاصات (80 صفحة) في قضية التآمر على الدولة التونسية الموجهة فيها التهم إلى مجموعة من الشخصيات السياسية ورؤساء الأحزاب، وهم جميعاً من معارضي حكم الرئيس قيس سعيّد ومسار "25 جويلية"، وطيف من الإعلاميين والنقابيين والمدوّنين ورجال الأعمال، المقاربة الرئاسية في التعاطي مع المجتمع السياسي التونسي. قامت هذه المقاربة على نفي كامل للمعارضة وعدم الإقرار بها في النصوص الأساسية للدولة، وخاصة في دستور 2022، ولم يستعمل الرئيس سعيد مصطلح المعارضة إلا في مناسبات معدودة، من ذلك قوله، يوم 25 يوليو/ تموز 2013، على هامش حدث اغتيال الناشط السياسي محمد البراهمي، "يجب أن يرحلوا جميعا بحكمهم ومعارضتهم"، ويوم 6 إبريل/ نيسان 2024 في كلمته بمناسبة زيارة أداها إلى ضريح الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في الذكرى 24 لوفاته. ومن ثمّ يصبح كل فعل سياسي معارض وحتّى موال مجالاً حيوياً للتتبع الاستعلاماتي والأمني، وهذا الأمر يبدو واضحاً في قرار ختم البحث المشار إليه، وفي غيره من محاضر التحقيق لدى كل من باحث البداية (الأمن) وقضاة التحقيق. وقد كشفت مثل تلك المحاضر كيف أن الأنشطة السياسية للأحزاب والشخصيات العامة المهتمة والمشتغلة بالشأن الوطني أو الدولي من داخل مؤسّسات الدولة ومن خارجها، ورغم اشتغالها وممارسة أنشطتها في نطاق القوانين المعمول بها وبصفة علنية، فإنها كانت محلّ مراقبة مستمرّة. وزيادة على ذلك فإن المحامل الإلكترونية من هواتف ذكية وأجهزة لوحية وإعلامية، وما تحتويها من تطبيقات اتصالية وإبحار في عالم السوشيال ميديا، ومراسلات ومهاتفات شخصية، كانت وسائل إدانة بالنسبة للجهات الاستعلاماتية، عادة ما تضمنها في التقارير اليومية والأسبوعية والشهرية التي تتوجه بها إلى رأس السلطة التنفيذية. المتابعة الأمنية الدقيقة كانت تتسع أيضاً لكل ما ينشر في الفضاء الافتراضي وتكييفه طبقاً لما يعدّ من تهم على شاكلة تهمة التآمر على الدولة. إن كل إنسي يتحرّك في عالم السياسة وقواها الحيّة من اجتماعات حزبية وتظاهرات شعبية وظهور في الوسائل الإعلامية ونظيراتها الاتصالية وتواصل مع جمعيات أو سفارات أجنبية، من خارج السلطة هو متهم إلى أن يثبت العكس، ذلك أن المقاربة الأمنية تعتبر الممارسة السياسية فعلاً يجب أن يحتكره الحاكم، وهو من يحدد هامش الآخرين في تلك الممارسة، حتى بالنسبة لأعوانه وحواشيه، أو من يحقّ لهم المعارضة من داخل منظومة الحكم، وقد أطلق عليهم في زمن حكم الرئيس زين العابدين بن علي الأحزاب الكرتونية أو أحزاب الديكور.

الرئيس سعيّد أول من تنكّر لاستقلالية القضاء دستورياً أو قانونياً، فكلّ من سبقه من الحكام، وإن تدخّل في الشأن القضائي بشكل أو بآخر لم ينكر على القضاء كونه سلطة مستقلّة

قلبت المقاربة الاستعلامية – الأمنية مفهوم النشاط السياسي والعمل العام على رأسه، بعد أن كان يمشي سوياً على قدميه، وأُسس لها في زمني حكم الرئيس بورقيبة وخلفه بن علي، حيث إن الأمن بمعنييه، البوليسي والاستخباراتي، هو من يصنع السياسة والشخصيات السياسية وليست السياسة من تحدّد للأمن مربّعه الذي يشتغل فيه. تعود هذه المقاربة في فترة حكم قيس سعيّد بكلّ قوة، جاعلة من المرسوم 54 نصّاً تشريعياً مؤسساً لها، وتستند إلى المجلة الجزائية وخاصة إلى قانون مقاومة الإرهاب وغسل الأموال لسنة 2015 وتنقيحه سنة 2019 وتطبيقه على السياسيين والإعلاميين والمدونين وكل من ينخرط بالعمل العام، والحال أن هذا القانون وُضع لمقاومة الإرهاب والإرهابيين من تكفيريين ودواعش، وغيرهم من التنظيمات الإرهابية، الذين نفذوا وينفذون العمليات والتهديدات التي طاولت الدولة وكثيراً من الشخصيات السياسية والإعلامية، منهم من يقبع في السجون اليوم بتهمة التآمر على الدولة أو بسبب اتهامهم بارتكاب فعل موحش تجاه رئيس الجمهورية.

القضاء أداة بطش بالمعارضين:

انتهت تجربة الرئيس سعيّد مع القضاء إلى تهافت ما قاله يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 بحضور وزيرة العدل "قضاء مستقلّ خير من ألف دستور"، جاعلاً من قوله هذا أحد مفاتيح الأبواب الموصدة أمام نجاح حكمه. ويكفي أن دستور 2022 قد جعل من القضاء وظيفة، ومن القضاة موظفين لدى السلطة الوحيدة، أي سلطة رئيس الجمهورية، للقول إن الرئيس سعيّد هو أول من تنكّر لاستقلالية القضاء دستورياً أو قانونياً، فكلّ من سبقه من الحكام، وإن تدخّل في الشأن القضائي بشكل أو بآخر لم ينكر على القضاء كونه سلطة مستقلّة. قد يكون من المفيد التذكير بأن الرئيس سعيّد كان يطلق بعض الأحكام قبل صدورها، كما الشأن في قضية التآمر على الدولة التي نعت فيها المتهمين بالإرهابيين والخونة المجرمين وبأنهم يتآمرون على أمن الدولة، بعد أقل من أسبوع من القبض عليهم رغم معرفته الدقيقة والمسبقة بتاريخهم وانتمائهم السياسيين، ولطالما كان يجلس إلى بعضهم قبل توليه الرئاسة وبعدها. وبناء على تلك النعوت، سيكون حجم العقوبات ثقيلاً، ومن لم يحكم بما قرّره رئيس الجمهورية، سيوصَم بأنه من القضاة العصاة، الذين تصدُر تباعاً قرارات عزلهم من مهماتهم، شأن 57 قاضياً وقعت إقالتهم بقرار من الرئيس رغم إنصافهم من المحكمة الإدارية، أو نقلهم تعسفياً، أو غلق مكاتبهم وسحب ما تحت أياديهم من ملفات وقضايا وتسليمها إلى قضاة موالين طيّعين ينفذون الأوامر من دون تردّد، أو خائفين من أن يكون مصيرهم مصير زملائهم الأسبقين.

أرضى سعيّد نرجسيّته السياسية وطبّق نظامه القاعدي السياسي وقام بتهميش الطبقة السياسية ومنعها من ممارسة حقها التاريخي في ممارسة السلطة والمعارضة

وفي أقلّ من ثلاث سنوات (2021 - 2024)، انتقلت تونس مما كان يطلق عليه "قضاء البحيري" نسبة الى وزير العدل الأسبق والقيادي في حركة النهضة، نور الدين البحيري، القابع في السجن حاليا، إلى نوع جديد يسمّى في الدوائر القضائية "قضاء قيس سعيّد"، وبات، وفق ما يُتداول في أروقة العدالة التونسية، للرئيس قضاة ومكاتب قضائية يطبّقون التعليمات الرئاسية، وما تمليه عليهم وزيرة العدل، فيستخفّون بالإجراءات كما الأمر في قضية التآمر التي تجاوز سجن أصحابها 14 شهرا ومع ذلك لم يطلق سراحهم. وبدأت ثمار المرسوم عدد 54 المضاد للحرّيات العامة والفردية تأتي أكلها في حق الإعلاميين والمدونين والسياسيين، حتّى أصبح كل من يعارض بصورة جدّية الرئيس وحكومته وطريقة إدارته للدولة مشروع متهم أو مدان ينتظر دوره في سلّم قائمة طويلة، وما دوره ببعيد. وبذلك لم يعد القضاء التونسي سلطة لإقامة العدل كأساس للاجتماع البشري والعمران الإنساني وفق مقولة ابن خلدون التاريخية، وإنما بات يمثّل العصا الغليظة التي يستعملها الرئيس في الانتقام من مناوئيه والقضاء على منافسيه وخصومه السياسيين، وتجفيف منابع السياسة والمعارضة ليستقرّ له أمر الحكم أطول فترة ممكنة، حتى صار الشعار الأنسب في هذه المرحلة "القضاء في خدمة الرئيس" بدلاً من "قضاء مستقلّ خير من ألف دستور".
اكتمل مشروع الرئيس ولم يتحقّق لتونس مشروعها: اكتمل النظام السياسي الذي ارتضاه قيس سعيّد صالحاً لتونس بعد "25 جويلية" (2021)، وقد صاغ معالمه في الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 ومجموع المراسيم الرئاسية بعد ذلك التاريخ، وفي دستوره لسنة 2022. استقرّ هذا النظام رئاسياً مطلقاً، يحتكر فيه الرئيس إدارة الحياة العامة ويمتلك السلطات جميعاً آمراً ناهياً في كل ما يتعلق بالدولة والحكم والإدارة والتشريع والقضاء، فهو من يسمّي الوزراء والسفراء والقناصل والولاة والمديرين العامين والمعتمدين، ويعزل منهم من يشاء على هواه وهوى صفحات أنصاره ومواليه على فيسبوك. ومن مظاهر اكتمال مشروع الرئيس السياسي تشكّل مجلسين تشريعيين ضعيفين أقرب للصورية والتبعية الكاملة للسلطة التنفيذية، وجعل القضاء أداة طيّعة في أيدي الرئيس، ولم يتبقّ من مشروع سعيّد سوى المحكمة الدستورية، ويبدو أنه لا يرغب في تشكيلها في هذه المرحلة، رغم تحديد مواصفاتها بنفسه، لما لها من خطورة محتملة بسبب تولي رئيسها رئاسة الجمهورية في حال الشغور الدائم في منصب الرئيس. أرضى الرئيس سعيّد نرجسيّته السياسية وطبّق نظامه القاعدي السياسي (الاقتراع في دوائر صغرى على الأفراد وبواسطة التصعيد) وقام بتهميش الطبقة السياسية ومنعها من ممارسة حقها التاريخي في ممارسة السلطة والمعارضة، واستبدلها بطبقة حكم طفيلية ذات خلفية إدارية أو موالاة الرئيس، فتحقق له مشروعه. لكن تونس فقدت بوصلتها ولم يتحقق مشروعها الإصلاحي والثوري الموعود به، وخسرت ديمقراطيتها الفتية وخسر معها الوطن العربي أوّل ديمقراطية عربية ناشئة، ومن كان يعتقد ان كلفة الديمقراطية كبيرة اكتشف أن كلفة الاستبداد أكبر، وأن ما يروّجه من أن الدولة التسلطية قادرة على الإنقاذ الاقتصادي هو الوهم والجري وراء السراب.

أوشكت ولاية سعيّد على النهاية من دون إرساء سياسة خارجية واضحة والابتعاد عن الارتجالية في العلاقات الدولية وتجنّب تأزيمها

لا تزال تونس ترزح تحت طائلة الديون المتفاقمة والمديونية العالية، والتبعية المالية وغير المالية، للخارج، بالرغم من الشعارات السيادوية المرفوعة، وقد تبيّن أن ادّعاء الرئيس بأن القروض والهبات التي وصلت الخزينة التونسية إبّان العشرية 2011-2021 تمت سرقتها ونهبها كان مجرّد دعاية، بعد أن انكشف أن 70% منها ضخّت في ميزانية الدولة و30% كانت من نصيب البنية الأساسية، ما أدّى إلى عدم نشر التقرير الرقابي الذي أذن به وأجرته وزارة المالية، فكفّ عن الحديث في هذا الموضوع.
ولم تسطع الشركات الأهلية، بوصفها البناء القاعدي الاقتصادي، وهي التي تم بعثها وخصها بأموال وأملاك الدولة التونسية وعددها في حدود المائة، أن تساهم في الحدّ من البطالة التي تجاوزت 16 بالمائة بعد أن كانت 15% قبل 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، ولا تزال موارد الصلح الجزائي (البناء القاعدي المالي) 26.5 مليون دينار من 13.5 ملياراً المُبشّر بإرجاعها من الرئيس، هذا بالرغم من تغيير القانون المنظم للصلح الجزائي وإدخاله في صلاحيات مجلس الأمن القومي، وتراجع الاستثمار الوطني والأجنبي حتى باتت تونس تعيش أزمة اقتصادية مزمنة من أبرز مظاهرها ضعف النمو بـ0.4% وفقدان المواد الأساسية وندرتها في فترات طويلة من السنة وغلاء الأسعار بصفة حادّة وخيالية، وانهيار الطبقة الوسطى لفائدة مزيد من الفقر والفقراء. 
أوشكت ولاية الرئيس سعيّد على النهاية من دون إرساء سياسة خارجية واضحة والابتعاد عن الارتجالية في العلاقات الدولية وتجنّب تأزيمها كما وقع مع المغرب وعدة بلدان أفريقية، ومن دون أن تلوح في الأفق علامات النجاة أمام التونسيين الذين ارتفع عدد مهاجريهم إلى الخارج بالطرق المشروعة وغير المشروعة إلى ما يناهز 20% من سكان تونس من دون أن يتوقّف هذا النزيف القاتل، ما يجعل من الهجرة الحلّ الجذّاب والأمثل في مواجهة معاناة أغلب التونسيين، في انتظار تحقيق جنّة الرئيس قيس سعيّد الموعودة التي بشّرت بها جمهوريته الجديدة.