قمّة جدّة ... ترسيم نهاية الربيع العربي
تبدو قمّة جدّة، التي انعقدت الجمعة المنصرمة، وكأنها نهاية رسمية للربيع العربي، بما يعنيه ذلك من ''إعادة الاعتبار'' للنظام العربي الرسمي الذي اهتزّت أركانه قبل أكثر من 12 عاماً، على وقع احتجاجات شعبية لم تشهدها المنطقة من قبل، وبما يعنيه أيضاً من تبخّر أحلام الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولعلّ ما يجعل هذه القمّة إعلاناً بإغلاق قوس الربيع العربي حضور الرئيس السوري، بشّار الأسد، أشغالها، بعد عزلة طويلة فرضتها الأزمة السورية بكل الأطوار المأساوية التي شهدتها طوال أكثر من عقد، فقد بدا في لحظةٍ أنّ هناك قراراً عربياً رسمياً بتبييض كلّ ما ارتكبه النظام السوري من فظاعات بحقّ شعبه بعد أن تبدّلت الأولويات والاصطفافات في المنطقة، على الرغم من أنّ حضور الأسد كان محطّ اعتراض الدول الغربية الكبرى، وبالأخص الولايات المتحدة، غير أنّ اعتراضها خفّت حدته بعد حضور الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ليشكّل ذلك نقطة توازنٍ لا تخلو من دلالة في مقابل حضور الرئيس السوري.
لا تنفصل قمّة جدّة عمّا تشهده المنطقة من تحوّلات، يصبّ معظمها في تصفية تركة الربيع العربي، بعد إجهاض المسار الديمقراطي في تونس، وإخفاق الموجة الثانية من الثورات العربية في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، وانزلاق السودان إلى حربٍ أهليةٍ مفتوحة، وغياب أي أفق لتسوية الأزمتين اليمنية والليبية. وهو ما يعني، حتماً، صعودَ قوى الثورة المضادّة التي باتت أكثر قدرة على التأثير في التجاذبات التي يشهدها الإقليم على غير صعيد، بعد انكفاء حركات الاحتجاج وانحسار فاعليّتها في دينامية التدافع السياسي والاجتماعي. يبدو هذا الصعود محكوماً، حسب مخرجات قمّة جدّة، بأولوياتٍ لا تحتمل التأخير، يتصدّرُها ''تعزيز العمل العربي المشترك'' الذي لا يعني غير إعادة إنتاج نظام عربي رسمي مشلول لا يعكس تطلعات المواطن العربي. ويمكن القول إن تأكيد القمّة على ''مركزية القضية الفلسطينية'' لا يعدو كونه نقطة توازن أخرى في هذا الصدد، إذ لا يستقيم هذا التأكيد مع مسار التطبيع الذي تسلكه دول عربية مع الكيان الصهيوني.
لا تنفصل قمّة جدّة، كذلك، عن الاتفاق السعودي الإيراني الموقَّع في بكّين في مارس/ آذار المنصرم، الذي لا شك أن الأزمة اليمنية بكل تعقيداتها السياسية والمذهبية والجيوسياسية تقع ضمن محاوره العريضة. وهو ما يوسّع هامش المناورة أمام السعودية، من خلال التفاوض مع إيران على حدود نفوذها المذهبي والسياسي في اليمن والإقليم عموما، خصوصا أن الرياض لعبت دورا كبيرا في دفع النظام الرسمي العربي إلى القبول بعودة نظام الأسد لشغل المقعد السوري في جامعة الدول العربية. لقد كانت عودة هذا النظام إلى الجامعة مشروطة بمخرجات الاتفاق الذي يبدو أنها لم تكن قد نضجت خلال القمّة العربية التي انعقدت في الجزائر، وكان يُتوقع حضورُ الرئيس السوري أشغالها.
لم يعد التحالف الإيراني السوري يشكّل مصدر قلق للنظام العربي الرسمي، على الأقل بالنسبة للسعودية التي تتطلّع إلى توجيه التحالفات الجديدة في المنطقة واستخلاص عائداتها، مستفيدة من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي ستُفضي، مهما كانت نتائجها على الميدان، إلى تعديل ميزان القوى في العلاقات الدولية بقدرٍ أو بآخر.
اليوم، يغلق قوس الربيع العربي بعد مخاض عسير نجحت فيه الثورة المضادّة في استعادة المبادرة، مستفيدةً من السياقين الإقليمي والدولي المطبوعين بأزمةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ بسبب تداعيات الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية وانحسار مدّ الحركات الاحتجاجية في الإقليم والعالم. بيد أن ذلك لن يحول دون استمرار شعوب المنطقة في التطلع إلى القطع مع الاستبداد والفساد والتخلف. قد تكون الموجتان، الأولى والثانية، من الثورات العربية قد أخفقتا لأسبابٍ يطول الخوض فيها، لكن ذلك لا يعني أن الإيمان بحتميّة التغيير سيتوقّف، في ظل استمرار الأسباب التي كانت وراء تفجّر الاحتجاجات الشعبية نهاية 2010 ومطلع 2011.