قل لهم: أنا جوني ديب، رجل وضحية امرأة

17 يونيو 2022

جوني ديب بعد اختتام مرافعات قضيته مع زوجته السابقةفي محكمة في فرجينيا (27/5/2022/Getty)

+ الخط -

ما زال صدى قضية نجم هوليود، جوني ديب، يتردّد في أميركا وحول العالم، بعد أزيد من أسبوعين على انتهاء محاكمة ماراثونية دامت ستة أسابيع، وخلصت إلى أن زوجته السابقة، الممثلة آمبر هيرد، قد كذبت وتصرّفت بخبث وشوّهت سمعته، ما تسبّب له في ضرريْن، مادي ومعنوي. لم يتابع ملايين الأميركيين هذه القضية من باب الفضول والتسلية فقط، بل لكونها قضية رأي عام شكّلت منعطفا في تعامل المجتمع الأميركي، وربما الدولي، مع قضايا العنف الأُسري، وقد تضع حدّا لانحرافات الحركات النسوية في موجتها الرابعة التي جسّدتها حركة #MeToo، أو "#أنا أيضا".

كان في وسع الممثلة هيرد أن تكتفي بسبعة ملايين دولار حصلت عليها مقابل تسوية طلاقها من ديب في صيف 2017، وكان بإمكانها الاكتفاء بتدميرها سمعته جرّاء اتهامها له بالاعتداء عليها، وتسريبها إلى الإعلام شريط فيديو وصورا لا تثبت مزاعمها بقدر ما تظهره في أسوأ حالاته. لكن الممثلة استهوت دور الضحية، وقرّرت المضي في اتهاماتها، مستغلّة الأحكام المسبقة والقوالب الجاهزة للمرأة الضحية والرجل الجلاد، في فترة شهدت انزلاق الحركات النسوية من "تمكين" المرأة إلى الانتقام من الرجل.

دانت هوليوود القرصان ديب، لكونه رجلاً ومدمنًا على الكحول والمخدّرات، وصدّقت الجميلة هيرد لأنها امرأة يوحي مظهرها بالبراءة، ادّعت النّبل والإنسانية بعد أن أخبرت العالم بأنها تبرّعت بالملايين التي جنتها من طلاقها (وستثبت المحكمة كذب ادعاءات التبرّع) لمنظمة حقوقية ومستشفى أطفال "لدعم من لا يقوى على الدفاع عن نفسه". لم تكتفِ هيرد بالرصيد الهائل من التعاطف الذي حصلت عليه، وجنت على نفسها بتماديها في التمثيل، ورغبتها في تقمّص دور "الناجية" من العنف الجنسي.

أفقدت قضية ديب وهيرد الكثير من مصداقية نضال الحركة النسوية التي تعيش اليوم أسوأ أيامها، في موجتها الرابعة

في أواخر عام 2018، نشرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية مقالا لهيرد بعنوان "تحدّثتُ ضد العنف الجنسي وواجهت غضب ثقافتنا. يجب أن يتغير ذلك". ادّعت الممثلة أن المجتمع عاقبها عندما جهرت بتعرّضها للعنف الجنسي، وأنها تلقّت تهديداتٍ بالموت جعلتها تغيّر رقم هاتفها كل أسبوع وتختبئ في بيتها شهورا، وزعمت إنها طوردت من طائرات بدون طيار مزوّدة بكاميرا، ومن مصوّرين لاحقوها سيرا على الأقدام أو على درّاجات نارية وبواسطة سيارات"، إلا أن محاكمتها أثبتت أنها هي التي سعت إلى إشهار طلاقها، والتشهير بطليقها.

لم يكن توقيت نشر مقالها في "واشنطن بوست" محض مصادفة، بل كان جزءًا من حملة ترويج لفيلمها الجديد، "Aquaman" الذي لعبت فيه دور المحاربة. كانت هيرد تعمل جاهدة من أجل رسم صورة جديدة لها؛ أكثر تمشيا مع دورها في الفيلم، كانت تريد الانتقال من صورة المرأة "الضحية" التي ظهرت بها عند طلاقها إلى السيدة "الناجية"، البطلة، الصامدة في وجه الرجل العنيف، والمجتمع "الذكوري" بأكمله. حقّقت هيرد حلم البطولة بعد أن أعلنها "الاتحاد الأميركي للحريات المدنية" سفيرة لحقوق المرأة، لتقود حملات المنظّمة ضد "العنف القائم على النوع"، الذي يُقصد به غالبا اغتصاب النساء والفتيات، أو التحرّش بهن جنسيا، أو تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى (ختّان الإناث).

لم تكن هيرد تظن أن نجم هوليوود قادر على أن يعترف بأنه ضحية، وحتى إن تجرّأ على فعل ذلك

أصبحت السفيرة هيرد شخصيةً عامّة تمثل عنف الرّجل ضد المرأة، وتطالب بتغيير القوانين الأميركية، وتجابه المؤسّسات التي تتّهمها بحماية الرجال المغتصبين، خصوصا من يملك منهم المال والسلطة والشهرة. نصّبت الممثلة نفسها ناطقة باسم حركة "مي تو" أيضا، وراحت تزعم في مقالها "نحن ]حركة مي تو[ نعيش لحظة تحوّل سياسية"، واختتمته بقولها إنها تريد أن تمكّن النساء اللواتي يجرُؤن على التحدّث عن تعرّضهن للعنف من تلقي مزيد من الدعم.

كانت هيرد تردّد شعار "صدّق النساء" (Believe Women) الذي أطلقته حركة "مي تو" في سبتمبر/ أيلول 2018، والمبني على فرضية أن المرأة حتما ضحية، وينبغي للمجتمع، بما في ذلك القضاء، أن يصدّقها، ويدين الرجل الذي لا يمكن أن يكون إلا جانيًا. كانت الممثلة والنّسويات اللّاتي دعمنها، يمضين في إدانة الرجل، بمجرّد أن تتهمه امرأة، ومن دون أن تدعم اتهاماتها بأدلّةٍ تثبت ادعاءاتها. كنّ يسعين إلى أن تصبح كلمة المرأة هي الفصل والوصل في قضايا جنائية تجعل من الرجل مذنبا حتى تثبت براءته.

هذا ما حدث بالفعل مع جوني ديب، حين اتّهمته هيرد وحصلت على إذنٍ بعدم اقترابه منها، رغم أن الشرطة لم تعثر على أي دليلٍ يدينه. لكن تمادي هيرد في اتهاماتها من دون وثائق طبية أو أي أدلّة إثبات، وتصعيد اتهاماتها له من الضرب إلى الاغتصاب، جعل نجم هوليوود يقرّر أن يتحدّاها، ليُظهر للجميع أن الضحية في هذه القضية، رجل، والجانية امرأة. في أحد الشرائط التي عرضها محاموه على هيئة المحامين وملايين المتابعين لمحاكمة هيرد بتهمة التشهير وتشويه سمعته، استمعت المحكمة لحديث بين ديب وطليقته، يشتكي إليها من كذبها وافترائها، ويسألها كيف لها أن تعنّفه وتعتدي عليه ثم تتهمه بتعنيفها، فتجيبه بسخرية: "أخبر العالم جوني. قل لهم أنا، جوني ديب، الرجل، أنا أيضًا ضحية للعنف الأسري.. وسترى كم من الناس سيصدّقونك أو يقفون إلى جانبك".

لم ينجح ديب في إقناع هيئة المحلفين فقط، بل أقنع ملايين الأميركيين، نساءً ورجالًا

لم تكن هيرد تظن أن نجم هوليوود قادر على أن يعترف بأنه ضحية، وحتى إن تجرّأ على فعل ذلك، يبدو أنها كانت متأكدة أن العالم لن يصدّق ذلك الممثل المدمن، صاحب الجسم الموشوم والمظهر الخشن، بعد أن شوّهت صورته. أخطأت في تقديرها، وفعلها ديب الذي، على عكسها، لم يدّع أنه رجل صالح، وكشف عن أعنف اللحظات الحميمية التي جمعته بها ليرى الجميع عيوبه، وضعفه، وجروحه وجبروتها. فضح خبث هيرد عبر شرائط مسجّلة تعترف فيها بأنها كانت تبادر بمهاجمته، وضربه، وشتمه، واستفزازه، وملاحقته، ثم تتهمه بالجبن كلما حاول مغادرة البيت لتفادي التصعيد والعنف.

حكى ديب أحداث شجار عنيف دار بينهما في أستراليا، وأرفقه بصور وشهادات طبية وتسجيلات صوتية، اتهمها بدوره بأنها أطفأت سيجارة في خدّه، ورشقته بزجاجة كحول أصابت يده فبترت رأس أصبعه، وراح يهرُب منها من غرفةٍ إلى غرفة، يختبئ في الحمّامات، ويكتب بدمه خواطر سوداوية. وبدل أن تطلب له الإسعاف، كانت تصوّر ما كتبه بدمه على المرايا والجدران، وهو ينزف أمام عيونها الخضراء.

كانت سادية هيرد صادمة، وكذلك تلاعبها، وتزييفها الحقائق، وتمثيلها السيئ. أبرزت المحاكمة أسوأ ملامح شخصيتها، وأثبتت أنها لم تكن أحسن منه بكثير، كانت تُفرط في الشراب أيضا، وتتعاطى الكوكايين، وتسبّ وتشتم بألفاظ نابية. نجح ديب في كشف الوجه البشع لجلاده أو بالأحرى جلّادته، إذ يصح تأنيث هذا الوصف ليعكس حقيقة عنف النساء أيضا. اتّضح أن السنوات الخمس التي قضاها بصحبتها دمّرته، وحولت حياته إلى جحيم، ودفعته نحو الإدمان أكثر... بشهادة شقيقتها، ويتني هيرد، حين تعرّفت آمبر إلى جوني عام 2012، كان "مشرقًا جدًّا وجميلًا ولطيفًا وكريمًا"، واعترفت أنه لم يكن يتعاطى المخدّرات وقتها. وشهدت زيجاته وعشيقاته السابقات وحتى ابنته بأنه كان ودودا، ولم يكن في أي يوم عنيفا تجاههن، ويستحيل أن يكون ذلك "الوحش" الذي تحيل إليه شتائم هيرد.

نجح ديب في كشف الوجه البشع لجلاده أو بالأحرى جلّادته، إذ يصح تأنيث هذا الوصف ليعكس حقيقة عنف النساء أيضاً

لم ينجح ديب في إقناع هيئة المحلفين فقط، بل أقنع ملايين الأميركيين، نساءً ورجالًا، وتصدّر وسمي #العدالة لجوني (#justiceforjohnnydeep)، و# آمبر هيرد المُعَنِّفَة (#AmberHerdisabuser)، منصة تويتر، على نحوٍ تغيرت معه الصورة النمطية السائدة للمرأة والرجل معًا. قد لا يعي ديب ذاته عمق التحوّل الاجتماعي الذي أحدثته محاكمة هيرد، وأن الأخيرة امتدّت إلى محاكمة الحركات النسوية التي دافعت عنها دفاعا أعمى، متمسّكة بشعار "صدق النساء"، رغم أن كل جلسة كانت تكشف عن كذبها وزيفها وظُلمها. أفقدت هذه القضية الكثير من مصداقية نضال الحركة النسوية التي تعيش اليوم أسوأ أيامها، في موجتها الرابعة.

منذ انطلاقتها الإعلامية في خريف 2017، وحركة "مي تو" النسوية تواجه انتقاداتٍ، لتطرّفها، ولأجندتها التي تُمَلْكِن المرأة وتُشيطن الرجل، ولتحاملها على المشاهير، باعتبارهم رمزا للسلطة والثروة. لم يصدّق الجميع هذه الانتقادات، حتى جاءت قضية ديب وهيرد، لتبرز انحراف الحركة وبُعدها الانتقامي، وزيف بعض بَطلاتها. ومن أهم مآلاتها أنه يجري الحديث أكثر اليوم عن "تمكين الرجال"، وعن الرجال "الناجين" من عنف المرأة، ومهضومي حقوق الأبوة وحضانة الأطفال، وعن ضرورة تكثيف نضال الحركات الحقوقية الرجالية.

ربما دخل الغرب حربا جنسانية، وإنْ حدث ذلك، فقد تُدخلنا الحركات النسوية العربية التي تستورد المفاهيم الغربية من دون غربلتها، وتستهلكها استهلاك "ماكدونالدز"، وتقحم مجتمعاتنا الهشّة في معارك نحن في غنى عنها، بدءًا بمسلسل "العنف القائم على النوع"، والانتقام من الرجال عبر اتهامات "#مي تو" إلى آخر مطلبٍ يتمثل في الاعتراف القانوني بهوية المتحوّلين جنسيا والعابرين والعابرات جندريا Transgender، ليضاف اختلاق مشكلة الهوية الجنسية إلى صراعات الهوية والإثنية والقبلية.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري