قطيعُ "المظاليم" السوريّ وثقافةُ القطيعة
أدّت حياةُ الحظر والحرمان في سورية، والتي تحوّلت إلى سياسةٍ إشباعية وتعبوية خلال خمسة عقود، إلى نوعٍ من "الخواء الوجودي"، وهو ما دفع السوريين إلى الانسحاب إلى أوكارهم الطائفية والعرقية والعشائرية، لتسودَ ثقافةُ الولاءات الصغرى، كنوعٍ من الاعتزاز البديل عن الهوية الوطنية المفقودة، في إطار مجتمعٍ لم تتبلور فيه البنى السياسية الاجتماعية المعاصرة على نحو متكامل. الغاية في هذا المقام التأكيد على أنّ تغيّر الواقع السياسي والاقتصادي، منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية وخضوع سورية للاستعمار الفرنسي، ساعد في تسريع وتيرة تشكّل الطوائف بالمعنى السياسي، لتلعب دوراً في الفضاء العام، ومن ثمّ في أن تأخذ الطائفية أبعاداً أوسع من مجرّد الاختلاف في نظرة أتباعها إلى أنفسهم، وإلى غيرهم من باقي مكوّنات المجتمع الذين يتقاسمون معهم العيش فيه. وبينما يُعَدّ تنوع الطوائف والأقوام مصدر غنى وتفاعل ثقافي وحضاري وفكري في الأنظمة الديمقراطية، يتجاوزون حدود هوياتهم الضيقة ما قبل الوطنية إلى بناء دولة المواطنة التي تصبح هي انتماؤهم الأول، تحوّل هذا التنوّع الطائفي وهذه التعدّدية الأقوامية في سورية إلى محرماتٍ يُمنَع الحديث عنها في مجتمع مفكّك، موحّد بفعل العصا، كُبتت في اللاشعور كي لا تخرج إلى الوعي إلّا وفق المنظور الأيديولوجي للنظام الحاكم. مع الوقت، تبلور هذا التنوّع الطائفي المكبوت في صيغة "شعور أقلّوي" و"مظلوميات مزمنة"، كردّة فعل على إحساسٍ دائم بالخطر والزوال أمام خطابٍ شموليٍّ مسيطر على أدقّ التفاصيل. مظلوميات تمّ تكريسها بشكلٍ ممنهج وخبيث، لتبقى الجروح نازفة والأحقاد قائمة. وعليه، تراكمت جبالٌ من الغضب والحقد بين السوريين، وفائض من الاستقطابات الهوُوَية، ومشاعر متناقضة من عدم الثقة وسوء النيات، أدّى ذلك كله إلى انسداد الأفق وضعف الأمل والرجاء.
الشعب السوري عانى مظلومياتٍ متعدّدة ساهمت، إلى حدّ كبير، في انغلاق كلّ مكون على ذاته، ما أسّس لـ"ثقافة القطيعة"
لا يخفى على أحد أنّ الشعب السوري عانى مظلومياتٍ متعدّدة ساهمت، إلى حدّ كبير، في انغلاق كلّ مكون على ذاته، ما أسّس لـ"ثقافة القطيعة"، بسبب ولادة سياسةِ المحاصصة القاتلة للمشروع الوطني. ومؤكّد، وليس مجرّد احتمال، أنها فتحت بابَ العنصرية والتطرّف الداخلي بسبب غياب آليات العمل المدني، والكفاح المشروع للتطور والتقدم. والواضح وجود ثلاثة فضاءات طائفية سورية رئيسية باتت شبه مكتملة على الأقل فكريا، يتشارك هذه الفضاءات كلّ من السنّة والعلويين والأكراد، وهي حاضنةٌ لثلاث مظلوميات بنت جدران فصل حول نفسها، لتخلق صدوعا غير قابلة للرأب بين بعضها بعضا. كما أنّ الطوائف الأخرى، كالمسيحيين والدروز والإسماعيليين والمراشدة والآشوريين والسريان وغيرهم، ليسوا في معزل عن هذه الأجواء.
وباعتبار أنّ الأكثرية العربية السنّية كانت تعدّ نفسها على الدوام صاحبة الحقّ في جمع السلطة والثروة، مستندة إلى تاريخ ممتد منذ الفتوحات الإسلامية، وباعتبار أنّ ذلك قد بدأ بالتغيّر مع سيطرة العسكر على السلطة منذ ستينيات القرن الماضي، ثم تأكّد بتركّز السلطة في يد شخصين من الطائفة العلوية، فإنّ اتخاذ الصراع أشكالاً أو تمظهرات طائفية محصورة بين هاتين الفئتين أمرٌ مفهوم إلى درجة كبيرة. زاد الطين بلّة أنه كان لجماعة الإخوان المسلمين دور بارز في أخذ الأكثرية السنيّة رهينة لتفسيراتها الخاصّة للدين، ودوره في المجتمع. وكان هذا المذهب والسلوك معبرين طبيعيين لمنافسةٍ محتدمة مع السلطة، ولّدت بدورها مظلوميةً على درجة عالية من الحساسية. في المقابل، عبّر الصراع العربي الكردي عن نفسه بأشكالٍ مختلفة، حيث تُروى نكتة شهيرة عن وزيرٍ ألقى خطاباً في حقول النفط في الرميلان، كرّر فيه بحماسة الشعار "بترول العرب للعرب"، فقاطعه أحد الأكراد متسائلاً :"الأكراد ما إلهم شي؟". وتعكس هذه النكتة "المهضومة" التي تداولها السوريون جانباً خطيراً من الإقصاء الذي عاناه الأكراد.
صدّق علويون كثيرون سردية النظام السوري أنهم كانوا خدماً "ومرابعين" قبل وصول الأسد إلى السلطة
في سياق موازٍ، ومنذ نَحَتَ الفقهاء مفهوم "أهل الذمة"، وصاغوا قوانين تمنع المسيحي من أن يتقلّد مناصب عليا، حتى بات خائفاً وهو الأصيل في موطنه، منذ ذلك الحين، تأسست مظلوميةٌ مسيحية جنباً إلى جنب مع المظلومية الأشهر، والتي تخصّ الطائفة الأكثر جدلاً وتعقيداً في سورية، أقصد العلويين، الذين ما زالوا يحتفظون بذاكرة الرعب الجمعية التي تنطوي على أحداثٍ تقشعرّ لها الأبدان، بعدما تعرّضوا لحملات إبادة طائفية من السلطات العثمانية، بينما لم تشهد تلك الفترة أيّ صراعاتٍ سنّية – علويّة بين المكوّنات السوريّة نفسها. صدّق علويون كثيرون سردية النظام السوري أنهم كانوا خدماً "ومرابعين" قبل وصول الأسد إلى السلطة. وبالتساوق مع هذا الادّعاء، يمكن الجزم أنه كان هناك إقطاعيون وملّاك أراضٍ من الطائفة العلوية نفسها، كما كان هناك أغنياء من السنّة يمتلكون قرى علوية، وكان هذا الموضوع أيضاً اقتصادياً وغير طائفي. في جميع الأحوال، مهما كانت الإساءات المزعومة للسنّة بحقّ العلويين، لا يمكن مقارنتها بما فعلته عائلة الأسد بحقّ وجهاء الطائفة الشرفاء بعد استيلائها على السلطة. يُذكر أنه في مقابلة مع الطيّار العلوي الذي سقطت طائرته ووقع أسيراً، وعند سؤاله: "كيف تبرّر هجوم بعض القرى العلوية على بلداتٍ سنية مجاورة وبكلّ الأسلحة؟"، أجاب الطيّار: "لدينا قناعة مطلقة أننا إذا لم نقتلهم فسيقتلوننا!" .. إلخ.
تعيش سورية حالياً حالةَ صراعٍ على السلطة يعكس الافتقار إلى وجود رابط قويّ بين السوريين. صراع حوّلهم إلى قطيعٍ من "المظاليم" يسير وفق مشيئة الديكتاتور. وعليه، لا يمكن للبلاد أن تتعافى من دون الانتقال السياسي، ومن ثمّ اتّباع مسار وطني متكامل للعدالة الانتقالية، يُبنى على المصارحة والشفافية وتقبّل الآخر كما هو. والسؤال الذي يُطرح عن حقّ هنا: لماذا هذه الشماتة المتبادلة بين السوريين وسط القصف والحرب والدم؟ فكما ظُلم الكرد، ظُلم العرب، وكما ظُلم المسيحيون، ظُلم الآشوريون، وكما ظُلم الشيعة ظُلم السُنّة، وكما ظُلم الإسماعيليون، ظُلم الدروز والعلويون.
الخطير أن تتحوّل المظلومية ذاتها عند مكوّن ما إلى واحدةٍ من صفات هويته الشخصية، وتصبح من أركان خلافه مع الآخر، ثم من أشكال الثقافات الثأرية
لتلمس أطراف الإجابة، يجب فهم العلاقة الخفية بين الطائفيتين الاجتماعية والسياسية في بلادٍ لم تُنجِز فيها سيرورة الحداثة علمنةَ الوعي الاجتماعي، بينما كانت الطائفية الموضوع الحاضر دائماً والمسكوت عنه في الوقت ذاته. الفيل الأبيض المنتصب في غرفة المجال العمومي، الذي يتظاهر الجميع أنّهم لا يرونه. يُصمَت عنه في هذا المجال، ويعوض عن ذلك بالتعبير عنه بحدّة ومبالغة في المجال الخاص. الخطير أن تتحوّل المظلومية ذاتها عند مكوّن ما إلى واحدةٍ من صفات هويته الشخصية، وتصبح من أركان خلافه مع الآخر، ثم من أشكال الثقافات الثأرية. والأخطر أن تتحوّل في الحالة السياسية إلى نوعٍ من الابتزاز الذي يعرقل بناء مجتمع المواطنة، فلا تتحقق العدالة الاجتماعية. هكذا تغدو المظلومية عقيدة متطرّفة تجمع ضحاياها، لتكون فوق أيّ اعتبار وطني أو إنساني! تتربى عليها الأجيال الناشئة، لتنتقم ممن ظلمها، وتعادي من لم يناصرها، وتكره من لم يشاركها حديث المظلومية.. الكلام يطول ويبقى نافل القول إنّ سرديات المظلومية، ومن دون البحث عن طرائق لرفعها، ستحوّلها من حالةٍ حقوقيةٍ إلى حالة سياسية، ستعمل بشكل أو بآخر لعرقلة أيّ حلّ باتجاه سِلْمٍ أهلي حقيقي، يجعل السوريين يتجاوزون مأساتهم التي شملت الجميع، من دون استثناء، في أثناء ثورتهم ضد الطغيان الأسدي.