قطر عاصمة العالم 2022

07 ديسمبر 2022
+ الخط -

استطاعت قطر، كما كان متوقعاً، أن تحوّل الحلم إلى حقيقة، عبر افتتاح كأس العالم الثانية والعشرين، في التجمع العالمي الأكبر الذي أظهر قوة الدولة الخليجية العربية، وظهورها على المسرح العالمي، على الرغم من التحدّيات التي تثيرها مسألة تنظيم فعاليات كرة قدم عالمية. تمكّنت قطر من تحقيق التنظيم المطلوب في البطولة منذ اليوم الأول، وتجاوزت الحشود الاستطلاعات التي تفيد بوصول أكثر من مليوني زائر. لقد جرى تجاوز هذا الرقم في أول كأس عالم تنظم في المنطقة، وتجاوز الشكوك في قدرة قطر على إدارة مثل هذه الحشود على المستوى الجغرافي، ومواجهة تحدّي تأمين أمن الجماهير والفرق، بالتعاون مع فرنسا وتركيا والمغرب، ودول أخرى، لإدارة حركة الجماهير، وانتقالها بسلاسة من الملاعب الكبرى وإليها والبيئة والمحيط، ليل/ نهار. كل ما روّجته بعض الصحافة الغربية من صعوبات في التنظيم، والاستيعاب، ومقاطعة مشاهدة المباريات، لم يتحقق، وعادت وتراجعت عنه، وتخطت نسبة المشاهدة في هذه النسخة من المونديال مثيلاتها في الدورات السابقة (ثلاثة مليارات نسمة).

إنه مؤشّر على الابتكار المجتمعي الذي يعكس مجموعة من المتغيرات، لناحية استعداد المجتمع القطري، والعربي عموماً، للتنمية والابتكار وعملية التحديث التي لم تستلزم وقتاً طويلاً. واتضح المجتمع الكروي الحديث بشكل كامل في قدرات تنظيم حدثٍ بمثل هذه الضخامة، تصاحبه الأنشطة الاجتماعية والسياحية والثقافية والفنية والبيئية، وحول مجمل الإنفاق الهائل على تلك البرمجة، والتحضيرات، والخدمات، والقوى التنظيمية والعاملة في الفنادق والمطاعم، وأماكن السهر، والترفيه، ووسائل النقل والحدائق والأماكن السياحية، وكل المساحات والمنتجات الإبداعية، وتحديداً الساحات وأماكن الإعلام والفرجة والشاشات الضخمة، ووسائل التواصل الاجتماعية التي تولت تغطية الحدث بحيوية ودينامية، وفعالية تواصلية، جعلت قطر في طليعة التقدّم، عاصمة العالم 2022، مع إعجاب عالمي بالنموذج الذي خالف الميل إلى تصوّر البلدان النامية غير قادرة على تحقيق مثل هذا الإنجاز الحداثي.

المونديال عنوان لمخرجات الإنجاز القطري بين المجتمع الرياضي والسياحي والسياسي، الميديا الجديدة، والعلامات الخدماتية والتجارية

المونديال عنوان لمخرجات الإنجاز القطري بين المجتمع الرياضي والسياحي والسياسي، الميديا الجديدة، والعلامات الخدماتية والتجارية... بيئة تمكينية غير كلاسيكية، في كأس العالم الشتوية. هندسة تقوم بوظيفة لغة واحدة كروية، جعلت من التواصلية في بناء الجسور العالمية أكثر سهولة، وبمزيد من تصوّر أدوات التشارك، وتعميق نطاق التعاون الدولي وبناء مستقبل. أبرز المونديال المتغيرات الجارية في المنطقة في وقتٍ يتقدّم فيه الركود في جميع نواحي العالم، فيما المنطقة تسجّل أكبر نسبة نمو في العالم، وبدأت الاستثمار في ما بعد النفط. مساحات مفتوحة من التشارك في الحقائق والأحلام والتحدّيات، على أرضية من السلم الكروي والأمن السياحي وحسن الضيافة، لا سيما عند تأكيد العائلة العربية ذاتها، حيث رأى العالم طويلاً المنطقة على أنها ولّادة أزمات، فيأتي الحدث تحوّلاً في الذهنيات والتصوّرات، عبّرت عنه الصحافة الغربية نفسها، إذ يحمل التحوّل الكروي نقداً كبيراً لحملات التحريف التي تتناول بالتجريح تطوّر ظاهرة الإيمان بمدينية قوية في المنطقة، تسندها دعاماتٌ للهويات الوطنية، وحيث تبقى التقاليد الثقافية، والأعراف على ثقلها، والمكانة التي تعطيها قطر لها مهمة. لا يعني المجتمع المفتوح التشابه، ولا يعني التجانس. أحد الآثار المرعبة هو الصدع القائم بين النخبة الثقافية الغربية وعامة الناس في المنطقة، والذين لا يقدرون التواصل معهم، ولا مع عالمٍ جديدٍ ظهر منذ عقدين، نموذج الصعود الشامل في العلاقات الدولية نسيجاً ثقافياً، وفنياً، اجتماعياً، أنثروبولوجياً، ديمقراطياً وتعدّدياً.

ليست الحداثة حكراً على الدول الكبرى، أو المستفيد منها طرف واحد. هي ظاهرة ترتبط بمسار العولمة، وطموح قطر في هذا المجال ليس له مثيل، في تسخيرها هذا الكم من الموارد المالية والقدرات والأدوات. ولذلك ليس العنوان القطري عادياً، إنه استثنائي مصحوب برهانات جديدة، مع الأخذ بالحسبان مساراً موجعاً من الانتقادات المبالغ فيها، في جزئية التحيز لمنصّة المثلية الجنسية، أو للائحة شروط وضعتها قطر للسفر متأخرة، وهي شكل لا يتجزأ من عوالم منهجية ثابتة في المنطقة، ليست موجّهة ضد جموع المدنيين. اختارت قطر أن تدير خلال المونديال مجتمعات مدنية وحداثية، وروابط أوسع من العلاقات الدولية والترتيبات، وأن تؤدّي دورها كاملا في إنتاج علاقات دولية على نحو أكثر تشابكاً.

ما لا تفعله الحروب تخرقه الرياضة للوصول إلى شرعية كونية غير أنانية في تقريب الشعوب بعضها من بعضها الآخر

ما حقّقته الدوحة بوصفها عاصمة عالمية 2022 جعلته في متناول المنطقة ككل، هي التي دفعت أثمان الحروب والنزاعات طويلاً. إنجاز كروي وأكثر يعكس جزءاً مهماً من التحوّلات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والديموغرافية، فالتظاهرة تشكل اختبارًا لمنطقةٍ ما تزال تعاني من أوضاع صعبة، فضلاً عن ميل في الغرب يتصوّر أن البلدان الإسلامية متخلفة بطبيعتها (!). صورة غير طبيعية لا تحمل رسائل طمأنة، وهي لم تشعر بوخز الضمير لمأساة الفلسطينيين على يد الإسرائيليين الذين اكتشفوا في قطر كراهية الشباب العربي لهم. ربما في الحسبان مسار آخر من عدم الإعجاب بأن تستعيد المنطقة صورتها الحداثية، لتكتمل الصورة بالأفكار الجديدة التي أصبحت رمزاً لعجز العالم الغربي الذي يعتبر قضية المثليين قضية حياة أو موت! ومثل هذا الخلط غير المنطقي لم يحدث في دورات ألعاب سابقة في روسيا والبرازيل وألمانيا، وغالباً لا تدور على نحوٍ من الإثارة غير الممكنة لمسألة حقوق الإنسان، كأن المثلية الجنسية هي الخرق الوحيد العنيف للعدالة والقانون، ولا ينبغي السعي للحصول عليهما في غير مكان. وغالباً ما أقيم المونديال في بلدان أكثر بعداً من قطر عن حقوق الإنسان.

لا بأس. غالباً ما تلتقي المشاعر الكروية مع المشاعر المرتبطة بالعنف، بالهوية الوطنية، وأحياناً بجنون متحيز، ما بين الحزن والفرح، ومن النوع السحري الذي يدفع الملايين إلى الشارع، ليشاركوا الانفعال نفسه. يمكن البحث كثيراً في فضائل المهرجان الرياضي الدولي في قطر، في أثر الصورة المقيمة، (احتاج الغرب ثلاثة قرون لإنجاز حداثته، ويتوقع من البلدان الأخرى إنجازها في نصف قرن). لا يتعلق الأمر بتهويمات كروية، بالوصول الى أوضاع عالمية أفضل، وبأمن وعدل، يقومان في جهة واحدة من العالم، وعزل الأبعاد الأخرى في النظام العالمي القائم، لكن كرة القدم تجعلنا نتخيّل إمكانية تحقيق مشروع السلم والأمن الدوليين. وما لا تفعله الحروب تخرقه الرياضة، للوصول إلى شرعية كونية غير أنانية في تقريب الشعوب بعضها من بعضها الآخر، وإن كان الجنون الرياضي يثير أحياناً العواقب المترتبة على أولئك المواطنين العالميين، غير المستفيدين من فتنة الكرة، والمحرومين من فرح الإنسانية.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.