قضية لوكربي... عود على بدء

14 ديسمبر 2022

من حطام الطائرة الأميركية بعد تفجيرها وسقوطها فوق لوكربي في اسكتلندا (24/12/1988/Getty)

+ الخط -

"لم أذكر أي اسم بتاتا في المقابلة التي أجرتها معي قناة بي بي سي البريطانية"... "مثل هذه القضايا من اختصاص مكتب النائب العام في ليبيا، وهو من يتولى مسؤولية معالجتها بين السلطات القضائية في البلدين"، هذا ما قالته وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، في ردّها على انتقادات وجهت إليها بعد اتهامها بالموافقة على التعاون مع السلطات الأميركية في حادثة لوكربي (تفجير طائرة أميركية فوق بلدة لوكربي الإسكتلندية، في 1988، ومقتل ركابها الـ259)، في معرض حديثها عن العلاقات الليبية الأميركية في المقابلة التي أجرتها مع الإذاعة البريطانية في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي. وقد أدّى التصريح الذي أثار ردود فعل غاضبة في الأوساط الشعبية والقانونية في ليبيا، باعتبار أنّ ملف لوكربي قُفل تماماً بتعهد كامل بين الحكومات البريطانية والأميركية والليبية بطيّ هذه الصفحة بمجرّد استلام عائلات الضحايا تعويضات، وصفت بأنّها الأعلى، ووصلت إلى 2.7 مليار دولار.

وفي السياق نفسه، نفى رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، أن تكون هناك أي نية لتسليم أي مواطن ليبي، وأكد في لقائه مع الفعاليات الطلابية والشبابية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، على ذلك قائلاً: "ملف لوكربي أقفل في الخارج، ونحن نريد فتحه في الداخل لمحاسبة من ورّطنا سنوات، وتسبب في خسارتنا المالية مليارات دفعت تعويضات". وأضاف: "عانينا ما عانينا في قضية لوكربي، ولا بد ألّا تتكرّر في هذا الوطن".

لم تقتصر الخسائر الليبية على هذه المليارات التي دفعت تعويضاً نقدياً، بل تجاوزتها إلى مليارات أخرى، نتيجة حصار استمرّ سنواتٍ عُزلت فيها ليبيا تماماً عن العالم الخارجي، وتسبب في إلحاق أضرار بالغة بالاقتصاد الليبي، وأثر سلباً في البرامج والخطط الإنمائية، وتضرر المواطن بشكل مباشر على كل الأصعدة، وعاشت ليبيا أصعب فترة عجزت فيها عن توفير متطلبات أساسية كثيرة، بما فيها الغداء والدواء، حصار لم تستطع الدول العربية كسره خوفاً من الولايات المتحدة، وطمعاً في رضاها، سيما أنّ نظام معمر القذافي لم يكن على علاقة ودية بكثير من هذه الحكومات.

أدّى الحصار، في نهاية المطاف، إلى رضوخ الحكومة الليبية لتسليم المتهمين لمحاكمتهم في أرض محايدة حسب القانون الإسكتلندي، وخلصت المحكمة، بعد أشهر من المداولات، إلى إدانة أحد المتهمين (عبد الباسط المقرحي)، وتبرئة شريكه (الأمين فحيمة) والمفترض، حسب رواية الاستخبارات الأميركية التي استندت إليها المحكمة، أنه من استغل وظيفته مندوباً للخطوط الجوية الليبية في مالطا، لإدخال المتفجّرات إلى الطائرة المنكوبة، وهو الشخص الذي تعرّف إليه التاجر المالطي في شرائه ملابس قيل إنها وجدت في الطائرة، وإنه حسب هذه الرواية كان المخطّط الرئيس الذي لولا مساعدته لما كان لهذا الفعل الإرهابي أن يحدُث، إلّا أنّه أطلق سراحه، وبرّئت ساحته في حكم شابته أوجه قصور كثيرة، حيث وصفه أستاذ القانون الإسكتلندي، روبرت بلاك، والذي كان وراء فكرة محاكمة المتهمين أمام محكمة إسكتلندية، بغير العادل، إذ صرّح في حينها بأنّ "المحكمة كانت عادلة، والأمر الوحيد الذي لم يكن عادلاً هو الحكم الابتدائي" وأضاف أنّ استئناف المقرحي هذا الحكم سيؤدّي إما إلى تبرئته أو على الأرجح إعادة المحاكمة، إلّا أنّ حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا اشترطتا عدم استئناف الحكم شرطاً أساسياً لرفع الحصار عن ليبيا.

جرى تسليم مواطن ليبي لدولة أجنبية من دون أن يُكشَف عن ملابسات عملية التسليم وحيثياتها، ولا معرفة كيف جرت

حاول نظام القذافي، بعد هذه التجربة المريرة، فتح صفحة جديدة من العلاقات مع الغرب، خصوصاً مع الولايات المتحدة وبريطانيا. ومن أجل ذلك، قدم تنازلاتٍ كثيرة، لعلّ أهمها تسليم كلّ ما يتعلق بمعدّات كانت تستخدم لغرض تصنيع بعض الأسلحة البيولوجية، وتم تسليم استخبارات هذه الدول قوائم بأسماء الجهات والأشخاص الذين ساعدوه في برنامجه النووي، كما سلًم قوائم بمن ساعدهم وسلحهم من الجيش الجمهوري الأيرلندي. وبالفعل، نجح في كسب ودّ هذه الدول، الذي اتضح، فيما بعد، بأنه لم يكن إلا ودا ظاهريا، حيث وجدت هذه الدول في انتفاضة فبراير فرصة ثمينة لمعاقبة نظامٍ طالما شقّ عصا الطاعة، وخرج عن نصٍ التزم به البقية، فساهمت طائراته وبوارجه في إطاحته تحت دريعة حماية المدنيين.

وجدير بالذكر أن نهاية نظام القذافي أتاحت الفرصة لإرهابيين كثيرين للوجود داخل التراب الليبي، مستغلين هشاشة الوضع الأمني، واستطاعوا ارتكاب أنشطة عديدة نجحت قبضة القذافي الأمنية الحد منها، أنشطة أسفرت، في بعض ما اسفرت عنه، عن مقتل السفير الأميركي، كريس ستيفنز، في بنغازي مع ثلاثة دبلوماسيين في العام 2012، واستطاعت القوات الأميركية الخاصة اعتقال أحمد أبو ختالة في العام 2014، من خلال غارة نفذتها داخل ليبيا، ونقلته إلى الولايات المتحدة، ليُحاكم أمام محاكمها الخاصة بالإرهاب.

ومع تصاعد الصراع المحموم على السلطة بين الأطراف الليبية ومحاولة كل طرف الاستحواذ على الحكم، حاولت هذه الأطراف جميعا كسب ود الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لإدراك الجميع أن أميركا تتحكّم بجميع خيوط اللعبة في ليبيا، وأن تدخلات خارجية كثيرة في الشأن الليبي ما كانت لتتم لولا موافقة أميركا عليها أو على الأقل غضّ الطرف عنها. ومن أجل ذلك، حاول كل الفرقاء الليبيين الاتصال، بطريقة أو بأخرى، بالسلطات الأميركية، علها تفوز بلقاء مع أحد المسؤولين، أو في أضعف الإيمان، تصريح صحافي يشير صراحة أو ضمنا إلى انحيازها لهذا الطرف أو ذاك، فعلى سبيل المثال، كانت فرحة خليفة حفتر ومن معه لا توصف، عندما تلقى اتصالا هاتفيا من رئيس الولايات المتحدة السابق، ترامب، في العام 2014، واعتبر ذلك دعماً مباشراً من الإدارة الأميركية لحفتر في مشروعه في الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح. وحاول أنصار حفتر تسويق ذلك، وسعت في المقابل حكومة طرابلس إلى الفوز بلقاء أو اتصال هاتفي، يضعها في كفّة متوازنة، من حيث رضى الإدارة الأميركية، ودفعت أموالاً طائلة لشركات العلاقات العامة الأميركية، لتحسين صورتها لدى الإدارة الأميركية.

خرق السيادة الوطنية والعمالة وتسليم مفاتيح الحل للخارج ساهم فيها الجميع، وما كان لليبيا لتصل إلى هذه الدرجة، لولا الصراع المحموم على السلطة

وفي إطار السعي المحموم لكسب الشرعية من خلال الإدارة الأميركية، أقدمت حكومة الوحدة الوطنية، وعلى عكس تصريحاتها، على تسليم المواطن الليبي إلى المخابرات الأميركية، بعد أن اقتحمت مجموعة مسلحة منزله، واقتادته إلى سجن في مدينة مصراتة (حسب إفادة أفراد أسرته) قبل تسليمه في عمليةٍ أكّدتها حكومة الولايات المتحدة التي سبق أن وقعت اتفاقية مع ليبيا في 2006 نصّت على عدم فتح أي مطالبات جديدة في "لوكربي" بعد دفع التعويضات، بالإضافة إلى توقيع الكونغرس في أغسطس/ آب 2008 قانونا بعدم اتخاد أي إجراءاتٍ بحق اللبيبيين في ملفّ لوكربي، ناهيك عن إصدار الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، مرسوما بإنهاء أي مطالبات مستقبلية فيه.

لقد جرى تسليم مواطن ليبي لدولة أجنبية من دون أن يُكشَف عن ملابسات عملية التسليم وحيثياتها، ومن دون معرفة كيف جرت هذه العملية، ولماذا ومن المسؤول عن تسليمه، وهل تمت وفق القانون الليبي، أم أن ذلك كله كان صفقة وتنازلا من حكومة تسعى إلى الحصول على شرعية دولية، من خلال إرضاء الإدارة الأميركية وبأي ثمن. أثارت عملية التسليم غضبا شعبيا واستنكارا محليا. وسارعت مؤسسات سيادية عديدة في ليبيا، وفي مقدمتها مجلس الدولة ومجلس النواب، الى استنكار هذه العملية، واعتبارها خيانة عظمى، حسب وصف بعض النواب، وطالب أكثر من 88 عضوا في مجلس النواب بعقد جلسة طارئة لمناقشة الموضوع. كما أدان رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب، فتحي باشاغا، على استحياء، هذه العملية، وقال إنه يخشى من "أن تكون عملية التسليم قد جرت خارج الأطر القانونية".

في كل حال، أدانت جهات رسمية عديدة عملية التسليم، وفي مقدمتها رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، وهي في الأساس أحد الأسباب الرئيسية في استباحة الوطن، من خلال استقوائها بالأجنبي، وأن معظمها كان سيفعل ذلك، وربما أكثر، إذا رأت أن ذلك يضمن لها الشرعية التي تسعى إليها منذ سنوات، وأن السيادة الوطنية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وحرية الحصول على محاكمة عادلة مصطلحات تستخدم لتبرير أفعالها وشيطنة أفعال الآخرين، فالسيادة الوطنية والعمالة وتسليم مفاتيح الحل للخارج ساهم فيها الجميع، وما كانت البلد لتصل إلى هذه الدرجة، لولا صراعهم المحموم على السلطة. أما المواطن البسيط فلا يملك إلا الدعاء والتقرّب لأحد المسؤولين أو قادة المليشيات، حتى لا يكون، في يوم ما، كبش فداء يُسلم لمخابرات دولة تجرّأ على انتقادها لتدخّلها السافر في بلاده.