قصّة حقيقية جدّاً
محزنٌ جدّاً حين لا تنتصر النساء لأنفسهن، والأكثر إثارة للحزن أن يتوقّعن من الآخرين الوقوف إلى جانبهن والانتصار لهن، وهن يتعرّضن خاضعاتٍ مستسلماتٍ لسوء المعاملة، من عنفٍ لفظيٍّ وجسدي، وإهانة وتحقير واستغلال مادّي.
بعد حوار طويل، امتدّ ساعتين، مع سيّدةٍ أربعينية مثيرة للرثاء، تأكّدت أنها تعاني من مازوخية خطيرة تجعلها تستمرئ واقعها البائس ضحيّةً مستلبةَ الإرادة فاقدةً الأهلية، متواطئةً ضدّ نفسها لصالح زوجها السادي النرجسي الأناني، الذي يتغذّى من ضعفها.
يمثّل شريكها العاطل من العمل نموذجاً للرجل الفاشل عديم المروءة وعزّة النفس، يقبل لنفسه أن يعيش على نفقة امرأة من دون أن يفكّر حتى بالبحث عن عمل. تذهب صباحاً إلى مقرّ عملها، وتعدّ له الإفطار، وتشتري له السجائر، وتتكفّل باحتياجاته كلها، ساعيةً لنيل رضاه، فيما ينام طوال النهار، ثمّ يصحو ليعاقر الخمر، ويسيء معاملتها ضرباً وتحقيراً، كما لو كانت جاريةً مضبوعةً لا تملك من أمرها شيئاً.
أحسّت أن توجيه النصائح لها بضرورة التخلّص منه، قبل أن يصل بها الأمر إلى الانتحار (كما هدّدتْ ضرباً من العبث) لأنها بلغت الدرك الأسفل من انعدام التوازن وفقدان الكرامة والإرادة والقدرة على التصدّي لمن يمتصّ طاقتها، وسنين عمرها، مثل العلقة من دون أدنى مقاومة تُذكر من ناحيتها. قلت لها: "أنت لست بحاجة إلى محامية، بل إلى تدخّل نفسي، لأنك عاجزة عن اتخاذ خطوة بسيطة ضرورية، وهي طلب الطلاق، والنجاة بنفسك من هذا الوضع المزري الذي تدركينه جيّداً".
اعترف بأني قسوتُ عليها، وذلك على النقيض من طبيعتي المنحازة للمرأة من حيث المبدأ، لكن هذه السيدة جعلتني أشعر بالعجز بعد أن استنفدت طاقتي وأنا أحاول إقناعها برفع دعوى طلاق، معزّزةً بتقرير طبيب شرعي يثبت تعرّضها للضرب المبّرح، وشهادات شهود من محيطها يؤكّدون تعرّضها للمعاملة المُهينة.
أحاول في مهنتي محاميةً أن التزم الحياد (قدر الإمكان)، غير أني لا أنكر تعاطفي الشديد مع النساء المضطهدات الواعيات لحقوقهن، الرافضات غير المستسلمات لواقعهن، العاملات على الانتصار لأنفسهن وحماية كرامتهن من اعتداء أزواج مرضى نفسيين، ولا يتوانون عن استخدام العنف اللفظي وسيلةً حصريةً للتعامل.
غير أن هذه الحالة الاستثنائية أشعلت فيَّ نار الغضب والتساؤل بغيظ: "كيف يقبل كائن ما إن يتعرّض لتلك الإهانات كلّها باستسلام مطلق، بل بشيء من التلذّذ الخفي، الذي يُؤكّد أننا بصدد حالة مَرَضية لا ينفع معها استشارةٌ قانونيةٌ عابرةٌ، بل تستدعي علاجاً عاجلاً حثيثاً.
وبحسب علم النفس، المازوخية مشكلة نفسية، تسبّب مستوىً معيّناً من الإيذاء للنفس، لأنّ المريض يواجه صعوبةً في الرفض أو قول "لا"، ويضحّي بسعادته من أجل الآخرين، للحصول على الحبّ والإقرار، وينجذب ويتعلّق بالأشخاص النرجسيين، الميّالين للسيطرة. قد يكون هناك العديد من الأسباب المتعلّقة بالطفولة وراء سلوك المريض، فيستولي عليه الشعور بأنه غير محبوب ومعذّب، فيعمل جاهداً حتى يُقبَل من الآخرين، فينجذب إلى العلاقات السامّة المسيئة، ويصبح خاضعاً ومطيعاً حتى يستمرّ لديه الشعور بالذلّ والعار، الذي يحقّق له لذّةً غير مفهومة، ولا تملك هذه الشخصية وضع حدودٍ للتعامل بما يصون كبرياءها وكرامتها.
يقترح خبراء نفسيون طرقاً مختلفةً لمساعدة الشخص المازوخي، منها حثّه على الانخراط في مجموعات أكبر، حتى يتمكّن من التعامل مع الجميع باحترام لذاته، وتشجيعه على مهارات الاتصال والعلاقات الصحّية، وتعزيز ثقته بنفسه، وزيادة احترامه لنفسه، وبالضرورة، اللجوء إلى المساعدة النفسية المتخصّصة. غير أنّ ذلك كلّه لن يتحقّق ما لم يعترف المريض بمرضه من خلال مواجهة الذات بشكل عقلاني، بعيداً من الدراما والمبالغات، وما لم تتوافر لديه الإرادة الحقيقية للتعافي والتخلّص من العلاقات السامّة، التي تنتزع كرامته وإنسانيّته، سيّما إذا وقع ضحيةً لشخص ساديّ مستغلّ منعدم الذمّة والضمير.