قصّة المناخ هذه التي تبعثُ على الهلَع أو اللامبالاة
عايشتُ، في الصيف الفائت، الدخان الأسود، "السموغ"، الذي غطّى سماء المدن الجنوبية الكندية، نتيجة حرائق الغابات. ومن وقتها، أنكبّ يوميا على متابعة أخبار مناخ الأرض. وفي بداية الأسبوع الماضي، صرتُ أترقب إعصارا اسمه "لي"، يجتاح سواحل فلوريدا الأميركية. والمفاجأة المثيرة كانت أن رياح هذا الإعصار بدأت بسرعة 50 كلم في الساعة لتزيد خلال 24 ساعة إلى 253. والأكثر إثارة أن علماء الأرصاد تعاونوا مع الذكاء الاصطناعي، ليخلُصوا إلى أن الإعصار يصعد إلى الشمال، أي نحو الشواطئ الكندية، ويمكنه أيضا الدخول إلى العمق، حيث المدينتان الأساسيتان، تورنتو ومونتريال، فتحدُث الفيضانات.
وكانت حملة للتزوّد بشنطة تحتوي على ما يحتاجه المواطن من مستلزمات طوارئ كهذه. طبعاً حقيبة إسعافات أولية، وأطعمة ومياه، وأشياء أخرى، أهمّها راديو ترانزستور، وبطّاريات، ومعهما لمبة كهربائية، نعرفها باسم "أنتريك". ولا حاجة للقول إن الصنفين الأخيرين أعاداني إلى سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، فاستنفرتُ، وبلَغتُ من حولي بالأمر. وعندما هممتُ بشراء ضوء البطاريات و"الأنتريك" والراديو، كانت نشرة الأحوال الجوية تطمئن إلى أن الإعصار "لي" تحوّل إلى ما يشبه المعكرونة، وتراجع اندفاعه. أي أن الخطر زال. فغابت عن شاشة الأرصاد التنبيهات المفْزعة. ولكن المعلومات أخيرا تفيد بأن الإعصار "لي"، بعدما تقلّص حجمه، عاد واستعاد زخمه، ليهدّد شواطئ كندا الشرقية، وربما عمقها أيضاً.
كان فاصلاً مناخياً قصيراً، خرج قليلاً من روتين حرائق الغابات الكندية المهولة التي اندلعت منذ بداية الصيف: 6700 حريق. تهجير حوالي ربع مليون من سكّان تلك الأراضي الضحية. وبقي على رجال الإطفاء إخماد ألف حريق... فقط. وهذا جزء ضئيل من غضب الطبيعة في أنحاء العالم كله. درجات الحرارة هذا الصيف في المناطق القريبة والبعيدة بلغت ذرواتٍ لم تعهدها. ورأينا سياحا بلباس البحر يهرُبون من حرائق الشواطئ اليونانية والإسبانية، محمولين على شاحنات صغيرة. ولولا لباس المايوه والشعر الأشقر، لخلتَهم من لاجئي المخيمات الفلسطينية، أو القرى السورية المدمّرة. وهذه ليست نكتة، فمن باتوا يعرفون بـ"اللاجئين المناخيين" صارت أرقامهم بالملايين (25 مليونا). خرج هؤلاء من أراضيهم، ويتوهون في العالم بعدما غمرت المياه جزرهم الصغيرة. أما اللاجئون المناخيون المنسحبون نحو الداخل، بعيداً عن الأنهر أو البحار الممتدّة، فهؤلاء لاجئون "داخليون"، لم يخرجوا من بلادهم. مثل الخمسين مليون باكستاني، الذين دمِّرت بيوتهم وزراعتهم وحياتهم، وانكفأوا أيضا نحو "الداخل" الباكستاني بحثاً عن لقمةٍ وسقف. هذا ما حصل لهم منذ عام بالضبط. وخسائرهم تتفوق على تلك التي تخلّفه الحروب، أهلية كانت أو "وطنية".
من باتوا يعرفون بـ"اللاجئين المناخيين" صارت أرقامهم بالملايين (25 مليونا). خرج هؤلاء من أراضيهم، ويتوهون في العالم بعدما غمرت المياه جزرهم الصغيرة
وذوبان الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، وفي أعالي الجبال، مثل جبال هيمالايا، التي يتقاتل عليها دوريا كل من الصين والهند، وأخبار الذوبان شبه يومية، المباشر منها، ما نراه بأم العين، هو محطّات التزلج التاريخية... ها هو ثلجها يذوب. بعضها يغلق، وبعضها الآخر يستورد ثلجاً مؤقتا تيسيراً لأعمالها. أما الصور الفوتوغرافية عن القطبين الجليديين، فيجب متابعتها يومياً لملاحظة سرعة ذوَبان ثلجها.
وقد نشر العلماء، أخيرا، سيناريو استمرار ذوبان كل هذه الثلوج: ارتفاع المياه 65 متراً فوق سطح الأرض. ورسموا خريطة الأرض بعد هذا الارتفاع. خريطة تغيب عنها مدنٌ أوروبية، أولها البندقية، وكذا هولندا والدنمارك. وتختفي أيضا بوينس أيرس الأرجنتينة، وشواطئ باراغواي وأوروغواي، وكل الشاطئ الأميركي على الأطلسي، وكاليفورنيا أولها. فيما أفريقيا سوف تعفى نسبياً، ولكن جزءا كبيرا من أراضيها الداخلية لن يكون صالحاً للسكن بسبب الارتفاع الهائل بدرجة حرارتها. الإسكندرية، القاهرة، سوف تغمرهما المياه كلياً، وكذلك سواحل الصين وبنغلادش والهند. والقارّة الأسترالية أيضا، أي الشواطئ الأسترالية حيث يعيش 80% من سكانها. ما يُحضر فيلم "عالم المياه"، والذي خرج إلى الصالات عام 1995، من بطولة كافين كوستنر، وهو دستوبي بامتياز: يروي قصّة ناس بقوا على قيد الحياة، بعدما غمرت المياه أرضهم، وباتوا يعيشون في زوارق وأصناف من العوّامات البدائية والمتطوّرة. ومن بين المشاهد التي حضرت إلى ذهني مباشرة بعد قراءة السيناريو الآنف: تلك الزرّيعة الصغيرة، فيها قطعة بندورة واحدة، يحملها البطل بين يديه بحرصٍ شديد، يضمّها ويحميها من العيون. وعندما يأتي إلى أكلها، وتكون أمامه أم وابنتها، تترجّيانه على جزءٍ منها، يقطّعها إلى أربع، كأنه يعد المرأة بأنه سيطعمها منها، ولكنه يلتهمها كلها، أمام الأم المذهولة من ساديته.
كل ما ورد أعلاه جزءٌ متواضعٌ من وعينا بموضوع أزمة المناخ الآخذة بضرب أرقام قياسية، لم يتوقّعها علماء المناخ أنفسهم. وإذا شئتَ التوقف عند هذا الحدّ من المعرفة، فهذا يكفي لينغّص حياتك، ويضيف سواداً إلى تصوّرك للمستقبل.
أعلم أن هناك من يرى كل هذا الكلام فارغاً. وأن ثمّة "متشائما" و"متفائلا" بهذا المجال أيضا. الأول يتابع حثيثاً ويحذّر. وبعضُه يخترع مشاريع "جذرية" فضائية للبحث عن كواكب أخرى غير الأرض. والثاني يرى في الأول تهويلاً. يثابر على التطمين، ويثق "بقدرة البشرية على تجاوز هذه المرحلة"، بما تملك من معلم ومعرفة... إلخ. وفي وسطهم، أولئك المشكّكون، بكل شيء، مثلما شكَّكوا بجائحة كوفيد ولقاحاتها.
وعلى كل حال، هل يكفي الوعي بهذه المخاطر بالذات؟ شيء من الجواب في قصة أولئك الهاربين من بيوتهم من مقاطعة ألبيرتا الكندية، إثر الحرائق التي اجتاحتها. وألبيرتا غنية بالنفط والغاز، وفيها مصافي تكرار عديدة ومصانع بتروكيميائية مرتبطة بها، جعلت سكّانها الأغنى من بين المقاطعات، والأعلى إصابة بسرطان الرئة، نتيجة تنشّقهم هواء المصافي والمصانع المسموم. والأخيرة، المصافي والمصانع، تتسبّب بانبعاث غاز الميثان، المسؤول الأساسي عن الحرائق العملاقة. وفي أثناء هروبهم، سألهم الصحافي إن كانوا يفكّرون بالتخلي عن مصافي النفط بغية تخفيف ما يعانون منها. وكان إجماعهم أنهم لن يتركوا، متباهين بأمواتهم وأمراضهم، الذين يرونهم فداء الأموال التي يجنونها.
يعطون الأذن الطرشاء عندما يسمعون عن مقدّمات الكوارث اللاحقة، فيرتاحون باللامبالاة، والنادرون من بينهم يغوصون في أزمة الأرض، فيهلعون.
حسناً، هؤلاء المواطنون الأفراد. الآن، ابحث عن أحزاب وتجمّعات تهتمّ بالموضوع، فتقع على خريطة قديمة جديدة، وتاريخ من الصداقة مع الطبيعة ومعالجة آلامها... وعندما تدقِّق بهذه الكمية من التجمّعات، المتناحرة، المتنافسة، المتراشقة، تضيع الرؤية والإمكانيات... فتحلّ محلها "الشخصيات البيئية" الواضحة المعالم، مثل السويدية غريتا تونبرغ، التي أضحت نجمة عالمية، تحتلّ أغلفة المجلات، وتتحدّى دونالد ترامب بنظراتها المشكِّكة، فتزيد شهرتها، وأخبارها، على حساب أخبار المناخ،
أو "الكبار"، أي الحكّام، والذين يتبارون في من يكون المسيطر على هذه الأرض، يتفانون من أجل عمليات "تشبيك" عالمية: الصين أم أميركا؟ و"بيضة القبّان"، الهند، رئيسة مؤتمر الجي 20 الأخير، لكبار الأرض، رئيس وزرائها ناريندرا مودي، وبلاده الأكثر هشاشة وتلوثاً، وتعرّضا للفيضانات والكوارث الرديفة لها، يضخّم صوته، يشتغل على نبرته تجاه أميركا والصين اللذين يتنازعان "صداقته"... ومؤتمر الجي 20 هذا، هو لـ"عظماء" الأرض، يضم أكبر المسؤولين عن تصاعد ثاني أوكسيد الكربون، وكان إنجازه الوحيد ضمّ القارّة الأفريقية إلى عضويته في مناورة مكشوفة ضد الصين، وإخفاق جديد بمعالجة الأهم، فقط لأن قضية المناخ خارجة عن دائرة صراع سلطةٍ على هذا الكوكب فيما غالبية البشرية، مثل سكان ألبيرتا، مأخوذون بلقمة العيش التي أصبحت مريرة، وستزيد مرارةً مع التدمير اللاحق بمقومات هذا العيش، يعطون الأذن الطرشاء عندما يسمعون عن مقدّمات الكوارث اللاحقة، فيرتاحون باللامبالاة، والنادرون من بينهم يغوصون في أزمة الأرض، فيهلعون... وإذا توصل الاثنان يوماً ما إلى الموازنة بين الهلع واللامبالاة، فسيكون ذلك بفضل ثورةٍ من نوع آخر، بوجه ثورة الطبيعة العشوائية العنيفة، قوامها أن الخطر الذي يواجهونه هو على البشرية جمعاء.