قرّر أن يجعل من الحنين عدواً
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
الحديث عن الشاعر سعدي يوسف، الذي يعيش الآن محنة صحّية نتمنّى أن يتعافى منها، حديث عن قامة شعرية، أو عن آخر الكبار الذين يذكّروننا بالشعر في أزهى عصوره وقوته، حين ارتبطت تفاصيل حياته ومنشئه بأهم رموز الشعر العربي الحديث، والمؤسّس لحساسيته الجديدة، بدر شاكر السيّاب الذي جمعته به صداقة وطيدة في العراق، قبل أن يغادر إلى منافي العالم، ويغادر السيّاب الحياة. ومن ذكريات تفاصيل هذه العلاقة بين الشاعرين، ما ذكره سعدي يوسف أنّهما مرة كانا جالسيْن في مقهى على شط العرب، وكان السيّاب يقرأ لسعدي قصائده بصوت عالٍ، ضمنها قصيدته "أنشودة المطر" فسأله سعدي: يا بدر، لم حذفت "اللؤلؤ" في المرة الثانية؟ في المرة الأولى "يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى" وحين كرّر العبارة الشعرية حذف كلمة "اللؤلؤ"، فأجابه السياب في ما اعتبره سعدي درساً عظيماً استفاد منه طوال حياته: لأنّ الصدى لا يرجّع إلا "حروف اللين" واللين أوضح في الصدى من الحروف الأخرى، لأنّها صوتية... ولم يكن لنا أن نعرف هذه المعلومة، لو لم يسأله سعدي. كنا حين نسمع القصيدة نظن، أحياناً، أنّه نسي كلمة اللؤلؤ أو أهملها، لكنّ تصرّف السيّاب في قصيدته يدلّ على تأنّيه، وحرصه، على الرغم من غزارته، إلى جانب علوّ كعبه في النحو والعروض والقوافي وصوتيات اللغة ورهافة ذائقته الشعرية. الأمر المهم الآخر، أنّ هذه المعلومة أوردها سعدي يوسف مصادفةً، في أثناء حديثه في برنامج "مشارف" الذي كان يقدّمه الشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان.
كان تأثير سعدي يوسف في جيله واضحاً، فيمكنه أن يكون شاعراً أثيراً بسهولة لكلّ من يقرأ قصائده، كما قال محمود درويش: "منذ قرأت شعر سعدي يوسف، صار الأقرب إلى ذائقتي الشعرية". وأنا من المعجبين بشعر سعدي، منذ المدرسة الثانوية التي لم تكن تدرّسنا شعره. تجذبني عنده شعرنة التفاصيل والتحليق والتجنيح بها، على سبيل المثال قصيدة "مسامير" التي تناولتُها بالتحليل في أثناء دراستي في التسعينيات الأدب العربي في جامعة "محمد الخامس" بالرباط، حيث يُطلب منا، بعد اجتياز امتحانات المواد الكتابية والشفوية، أن نعدّ بحثاً لكي نتمكّن من التخرج، فاقترحت على الناقد نجيب العوفي، وكان يدرّسنا حينها المقامات والقصة، أن يكون بحثي عن شاعرية المكان عند سعدي يوسف. وكنت حينها متأثراً بما قرأت للناقد الفرنسي غاستون باشلار، خصوصاً كتابه "شاعرية المكان". استحسن العوفي الفكرة، ووافق على أن يكون المشرف على البحث. وكانت المكتبة الوطنية بالرباط موئلاً لمختلف المراجع والمصادر، وهي مكتبة تتميز بتوفير الكتب، حديثها وقديمها. والبحث نشره لي، بعد مناقشته، الشاعر الراحل أمجد ناصر، على حلقات، في صحيفة القدس العربي.
ثم صادفت سعدي يوسف مرات عدة، اثنتان منها في مسقط، إذ عُرف عنه حبّه عُمان وتاريخها وطبيعتها وتضاريسها المتنوعة، وكان قد ذكرها حين كان يقيم في عدن. وحين زارها أول مرة، كتب قصيدته "على مشارف الربع الخالي" أهداها إلى الأخوين محمد وعبد الله الحارثي، وفي تلك الزيارة رافقته في رحلة إلى الجبل الأخضر، وكان بالصحبة أمجد ناصر، وقاسم حدّاد، وناصر العلوي. وفي زيارته التالية لمسقط، حضرت أمسيته التي أقامها النادي الثقافي، وعرض خلالها شريطاً وثائقياً عنه، تحدّث فيه بألم شديد عن فقدانه ابنه حيدر. وفي تلك المرة، كانت برفقته زوجته الإنكليزية، فأقاما في منزل الفنانة العُمانية، نادرة محمود، التي عُرفت بكرم وفادتها الكتّاب والمبدعين العرب. ومرة صادفته في الشارقة، وكان بصحبته الشاعر عبد الوهاب البياتي.
تتميّز بعض قصائد سعدي يوسف بالملحمية المقترنة بالشوق والحنين، فهو في شعره لم يفارق العراق، على الرغم من بعده عن بلده المنكوب الذي يسطع في مختلف قصائده، كما تسطع طفولته وفتوّته الأولى أيضاً بالإشراق نفسه. ولا بدّ أنّه كابد كثيراً في الغُربة والبعد عن وطنه العراق، حتى إنّه قال ذات لقاء: احتاج منّي الأمر، لقسوته، أن أجعل من الحنين عدواً، حتى أستطيع أن أتوازن وأمشي مستقيم الظهر.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية