قراءة من خارج التاريخ لأحداث السودان
كيف تمكّنت "المنظمات والأحزاب التقدمية العربية" (مثلما تسمّي نفسها) من أن تتفق على 282 كلمة ولا واحدة منها تحمل فكرة مفيدة لفهم الحدث السوداني الحالي؟ يكفي استعراض الأحزاب الـ17 الموقّعة على البيان الصادر يوم الأحد الماضي، لكي تتمنّى، وأنت تقرأ كل هذا "العْلاك" على قولة السوريين، لو ظلّ اليسار العربي "الرسمي" غارقاً في صمته الذي قد يكون أفضل ما فعله في العقود الماضية. في اللائحة، الأحزاب الشيوعية الرسمية في لبنان والسودان والأردن، ثم منظمات من تونس والبحرين والكويت وفلسطين والمغرب وموريتانيا ومصر (والصحراء الغربية) ... كلها محترفة في العادة عبارات "أثبتت الأحداث صحة تحليلاتنا"، و"الظروف الموضوعية ستقود العالم حتماً إلى مرحلة الاشتراكية"...
في عزّ متابعة مشاهد القتل والقصف والدمار في الحرب الأهلية السودانية، مسموح التمتّع بفقرة ترفيه وقراءة بيان الديناصورات اليسارية التي تنبّهت إلى أن "النزاع المسلّح يأتي نتيجة لمسار صراع معلَن وخفي مدعوم من قبل الأوساط الطبقية والسياسية المحلية الأكثر رجعية وارتباطاً بالأحلاف الإقليمية العميلة والفاسدة". هذه الأحلاف الإقليمية التي لا اسم لها، عميلة لمن بالتحديد؟ لماذا لا تسمّي أعمدة اليسار العربي دولة أو طرفاً بعينه عندما لا يكون "الاستكبار الأميركي والصهيونية"؟ لكي لا تُعتقل قياداتها على الأرجح من سلطات تقضي العديد من تلك الأحزاب اليسارية وقتها الثمين دفاعاً عنها أو مهادنة لها. حسناً، مَن هي هذه "الأوساط الطبقية المحلية الأكثر رجعية" التي يتحدّث عنها يساريونا؟ هل أبناء قبائل قوات "الدعم السريع" صاروا طبقة اجتماعية؟ هل محمد حمدان دقلو (حميدتي) وشقيقه عبد الرحيم صارا رمزي الكومبرادور الوطني السوداني؟ وماذا عن التوصيف الطبقي لبشّار الأسد في هذه الحالة؟ بشّار الذي يحلف زعماء معظم أو كل الأحزاب الموقّعة على البيان باسمه بوصفه "رأس حربة في مواجهة الإمبريالية"؟ وعلى سيرة الإمبريالية، فإن "كل القوى التقدّمية في المنطقة وفي العالم تدعو إلى شد أزر الشعب السوداني وثورته والتصدّي لكل أشكال التدخل الإقليمي والدولي لضرب المسار الثوري ووأده مثلما حدث مع بقية الثورات العربية، وذلك من أجل تأبيد السيطرة والتحكّم في المنطقة ومقدراتها". إنْ كان عدم ذكر مصر والإمارات والسعودية في الفقرة الأولى بالحديث عن "الأحلاف الإقليمية" مفهوماً في سياق الرغبة بعدم إغضاب سلطات بلدان هذه الأحزاب والمنظّمات، فلماذا لا تُذكر روسيا التي تسرح عصابات مرتزقتها (فاغنر) في استغلال ذهب السودان بموجب اتفاقٍ مع قوات الدعم السريع، أو مَن المقصود إن لم تكن روسيا بالسعي إلى "السيطرة والتحكّم في المنطقة ومقدّراتها"؟ ومن شبّ على شيءٍ شاب عليه، فقد جدّدت القوى الموقّعة على البيان "مساندتها للقوى الثورية (...) وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني (...) الذي أكّدت تطورات الأوضاع بما فيها النزاع المسلح، صواب تحليلاته ومواقفه". الخراب يعمّ البلد، لكن ما همّ، فالتطوّرات أثبتت صواب تحليلات الرفاق في الحزب الشيوعي السوداني.
أما وقد انتهت الفقرة الترفيهية، عودة إلى الجدّ. حرب أهلية في بلد كالسودان، تعرّضه لنهاياتٍ ليس التقسيم بعيداً عنها، خصوصاً عندما يكون أحد الطرفين مجموعة قبلية بالأساس مثل قوات الدعم السريع، عمودها الفقري من دارفور، بمساحته التي توازي دولة مثل فرنسا، وهو إقليم الذهب والثروات الأخرى، لكنه أيضاً أرض الإبادة وحرب الـ300 ألف قتيل والملايين الثلاثة من المهجرين.
في يناير/ كانون الثاني 2020، وصف رئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك الشراكة بين العسكر والمدنيين بأنها "نموذج لبلدان أخرى"، وذلك أمام وفد من الكونغرس الأميركي كان يزور الخرطوم. اليوم، لدى قراءة بيان الأحزاب الشيوعية العربية، يحتار المرء؛ مَن منهم عباراته أكثر عبقريةً، الأحزاب الـ17 أو نبوءة حمدوك؟