قتال الجميع ضد الجميع أو وقف الحرب
أعلن الجيش السوداني، في 19 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في تصريح رسمي، عن التحقيق في وقائع انسحاب قواته من مدينة مدني عاصمة ولاية الجزيرة، وسقوطها في قبضة قوات الدعم السريع من دون مقاومة. وذكر التصريح المختصر أن تحقيقاً سيُجرى وتمَّلك الحقائق لجهات الاختصاص والرأي العام. وبعد مرور أكثر من أسبوع، لم يصدر عن السلطات العسكرية أي تصريح جديد، بينما أعلن قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قبوله مبادرة منظمة الإيقاد، للقاء قائد "الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي).
تزامن اللقاء الذي تم تأجيله قبل ساعات من موعده مع ظهور نادر لقائد "الدعم السريع" في ضيافة رئيس أوغندا، يوري موسيفيني، ثم رئيس وزراء أثيوبيا، أبي أحمد، في ما يبدو مساومات الساعات الأخيرة لتحديد شكل التحالفات داخل "الإيقاد" قبل عقد اللقاء في الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني).
كما برزت القوى السياسية المدنية بعدما استهلكت شهوراً عديدة في تنظيم نفسها، وتشكيل تحالفها الجديد المعروف اختصاراً باسم "تقدّم"، برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك. وهو التحالف الذي قد يقع عليه عبء تحويل مفاوضات "إيقاد" المؤجّلة إلى عملية سياسية أكبر من مجرد لقاء عسكري – عسكري، يهدف فقط لوقف إطلاق النار. ومن المخطّط أن يلتقي رئيس تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية (تقدّم) بقائد الجيش، وقائد الدعم السريع، ورئيس "الإيقاد" لهذه الدورة، للدفع بخريطة طريق الانتقال الديموقراطي التي تبنتها التنسيقية لوقف الحرب واستعادة الانتقال.
ولكن الأمور على الأرض تبدو مختلفة قليلاً، فما حدث في ولاية الجزيرة، من انسحاب مفاجئ للجيش، ثم الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، رفع من حدّة الأصوات المعارضة لقائد الجيش في معسكر مؤيديه. وما بدأ بالدعوة إلى عزل البرهان وهيئة القيادة من مناصبهم، وتصعيد قيادات عسكرية أخرى تقود الجيش إلى الانتصار في الحرب، تصاعد حتى وصل إلى حمّى "التسليح الشعبي" في ولايات شمال السودان. أحيانا، تطالب الدعوات إلى تسليح المواطنين وتكوين مقاومة شعبية مسلحة بالتمرّد على قوات الجيش في المدن وانتزاع السلاح منهم بالقوة. بقدر ما تبدو هذه الدعوات مخيفة، لأنها تهدّد بشيوع حمل السلاح، وتكوين مليشيات قبلية ومناطقية، وهي وصفة محكمة ومجرّبة للنزاعات والحروب الأهلية التي تحوّل الدول إلى إمارات حرب صغيرة تسيطر عليها مليشيات مدنية محلية، لكنها أيضاً تبدو مفهومة في ظل فزع المواطنين من سيطرة قوات الدعم السريع، ولمقاومة الانتهاكات التي ترتكبها هذه القوات. شهدت الخرطوم أكبر عمليات نهب منظّم في تاريخها، فلم تترك قوات الدعم السريع منزلاً من دون اقتحامه وسرقة سيارات المواطنين في العاصمة، وسرقة محتويات المنازل، واحتلال بعضها والسكن فيه. كما وثقت "هيومان رايتس ووتش" عشرات الاعتداءات الجنسية على أساس إثني، ارتكبتها قوات الدعم السريع في مدينة الجنينة في إقليم دارفور. اختار كثيرون التسليح لمعرفتهم أن ما ينتظرهم عند قدوم قوات الدعم السريع سيكون السرقة والاغتصاب والقتل خارج القانون، خصوصاً مع انتشار فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي لجنود في المليشيا يهدّدون مواطني ولايات شمال السودان بالغزو وحرق النخيل، بمنطق أن هذا انتقام من تمتع مناطقهم بالأمان في سنوات الإبادة الجماعية في دارفور! وهي إبادة متهم بها "الدعم السريع" كأحد مرتكبيها لمّا كان أداة في يد سلطة نظام الحركة الإسلامية.
تبدو معضلة تسليح المواطنين للدفاع عن أنفسهم معقّدة للغاية. فلا يمكن أن يستسلم الناس للانتهاكات التي يرتكبها "الدعم السريع"، ولا يمكن تأييد دعوات حمل السلاح، خصوصاً التي تدعو إلى محاصرة حاميات الجيش واقتحامها لإجبار قادتها على تسليح المواطنين، فهي دعوات لا تقل خطورة عن الدعوات التي تتوسّل الجيش لتنفيذ انقلاب عسكري يطيح البرهان.
في ظل الخيارات الصعبة، يظلّ خيار وقف الحرب، والتفاوض لتأسيس انتقال ديموقراطي، هو أقلّ الخيارات كلفة. لكنه خيار يحتاج معجزة تحققها القوى المدنية أن تُجبر حاملي السلاح على وضعه، ثم تصل إلى اتفاقٍ يُخرج الجيش من العملية السياسية، وينهي وضعية تعدّد الجيوش التي أحرقت السودان، من دون تورّط في تكوين جيوش ومليشيات جديدة لمواجهة المليشيات القديمة. على هذا الخيار وضعت القوى المدنية كل رهاناتها، وسنرى.