قانون انتخابي في تونس على مقاس الرئيس

05 نوفمبر 2022
+ الخط -

الرئيس في الجمهوريات الديمقراطية المتقدّمة فاعلٌ سياسي، قيادي، يتمتّع بشخصية كاريزمية، ويميل إلى تجميع الناس، لا إلى تفريقهم، وتراه حريصاً على استرضاء خصومه قبل أنصاره، ولا يعمد إلى اتخاذ قراراتٍ أحادية، فردانية في مسائل تتعلّق بالمجموعة الوطنية والصالح العام. بل يشاور المؤسّسات السيادية، والجمعيات المدنية، والهياكل التمثيلية للمواطنين عند إقدامه على اتخاذ قرار يهمّ جمهور المحكومين. ذلك أنّ التشاركية جوهر الديمقراطية. والواقع في تونس منذ 25 يوليو/ تموز 2021 خلاف ذلك تماما، فالرئيس قيس سعيّد الذي انتخبه الناس بطريقة ديمقراطية أصبح يتصرّف بطريقة مضادّة للديمقراطية، وغدا يحكم البلاد بمراسيم أحادية، فوقية، لا تقبل النقض. بعد أن حلّ البرلمان المنتخب، والمجلس الأعلى للقضاء، وألغى دستور الثورة، أقدم الرجل أخيرا على إصدار المرسوم 55 لسنة 2022 الذي ضمّنه تعديلات جوهرية على القانون الانتخابي الذي ستنتظم بمقتضاه الانتخابات التشريعية (17 ديسمبر/ كانون الأول 2022).

ومعلوم أنّ القانون الانتخابي إطار تشريعي، ينظّم عملية الاقتراع ويهمّ عموم المواطنين، ويُفترض، عند وضعه أو تعديله، مراجعة الهيئات التمثيلية ومكوّنات المجتمع المدني. لكن الرئيس لم يفعل، بل مضى في تسطير معالم جمهوريته الجديدة الخاصّة، وعمد إلى تغيير القانون الانتخابي بمبادرةٍ فرديةٍ تشي باحتكار القرار، والوصاية على الناس، وتجاهل الفاعلين في المشهد المجتمعي. ويتبيّن الناظر في التعديلات الرئاسية أنّها تنبني أساسا على نظام الاقتراع على الأفراد، وتهميش الأحزاب، وإنتاج برلمانٍ معطوبٍ في ظلّ نظام رئاسوي، مطلق.

كان نظام الاقتراع، منذ انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 في تونس، يتم على القوائم الحزبية والمستقلّة مع التمثيل النسبي واعتماد أكبر البقايا. وهو، في نظر أغلب الباحثين في العلوم السياسية، من أكثر الأنظمة الانتخابية قدرة على تمثيل مختلف مكونات المجتمع. كما أنّه يضمن التعدّدية داخل مجلس نوّاب الشعب، ويقلّص من هيمنة الأحزاب الكبرى، ويتيح فرصة لصعود أحزاب صغيرة ومستقلّين. لكنّ الرئيس قيس سعيّد عمد في مرسومه الجديد إلى استبدال هذا النظام الانتخابي بنظام الاقتراع على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين عند الاقتضاء، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد. وتكمن أهمّية هذا الخيار في أنّه يحرّر المترشّح من الوصاية الحزبية ويمنحه حقّ المبادرة بالمشاركة الفردية في السباق الانتخابي وتقديم برنامجه للناس. ويعوّل المشرّع على أنّ المقترعين سيختارون من يعرفونه عن قرب والأكثر كفاءة من بين المترشّحين. وهذا النظام معتمد في دول قليلة، معروفة برسوخ قدمها في الممارسة الديمقراطية، والكفاءة العالية لأجهزتها الانتخابية والرقابية، وتشبّع مواطنيها بثقافة التنافس النزيه على السلطة. لكنّ اعتماد الاقتراع على الأفراد في تونس، لن يضمن النزاهة المأمولة في بيئةٍ مجتمعيةٍ لم يترسّخ فيها الوعي الديمقراطي، والتقاليد الانتخابية. فالأرجح أنّ المصوّت سيعطي الأولوية لمعايير القرابة الدموية، والروابط العشائرية والمصالح المادّية في اختياره الفرد المترشّح بدل معايير الكفاءة والنزاهة ونظافة اليد. والثابت أنّ التصويت على الأفراد سيسمح أساسا بصعود ذوي الجاه والوجاهة الاجتماعية إلى المشهد الانتخابي ومجلس نوّاب الشعب، وذلك في ظلّ تنصيص المرسوم الرئاسي على منع المترشّحين من الحصول على التمويل العمومي لإدارة حملاتهم الانتخابية، واشتراط أن يكون التمويل ذاتيا، خاصّا، وهو ما يعني إهدار الحدّ الأدنى من التساوي في الإمكانات المادّية بين المترشّحين، فأصحاب النفوذ وبارونات المال والأعمال، هم القادرون على توفير الوسائل اللوجيستية والفنّية والدعائية، لتأمين تواصلهم المباشر مع الناس قصد التعريف ببرنامجهم الانتخابي.

في المقابل، سيجد محدودو الدخل من عموم المواطنين ومن فئة الشباب المهمّش أنفسهم خارج دائرة التنافس على عضوية المجلس النيابي، لأنّهم لا يملكون الحدّ الأدنى من التمويل الكافي لإدارة حملة انتخابية ناجعة. ويبدو الرئيس قيس سعيّد في منعه التمويل العمومي مستحضرا تجربته الشخصية، عندما رفض المنحة الحكومية لإدارة حملته في رئاسيات 2019، غاب عن ذهنه أنّ حضوره الإعلامي، ووجود صفحات مموّلة على شبكات التواصل الاجتماعي داعمة له، وتجربته الطويلة في التدريس الجامعي، ذلك كله عزّز حظوظه في تلك الانتخابات، وهي حوافز غير متاحة لمترشّحين آخرين. لذلك كان الأجدى الإبقاء على التمويل العمومي ضمانا للحد الأدنى من تكافؤ الفرص بين المتنافسين.

المرسوم الانتخابي الجديد خطوة أخرى على درب تكريس الحكم الفردي، والانتقال بتونس من زمن العشرية التعدّدية إلى نظام شمولي/ رئاسوي/ أحادي

ويشترط القانون الانتخابي المعدّل أن يقدّم المترشّح قائمة تضم 400 تزكية من الناخبين المسجلين في الدائرة الانتخابية، مرفقة بتواقيع المزكّين لدى ضابط الحالة المدنية أو لدى الهيئة الفرعية للانتخابات. وأن يكون نصف المزكّين من الإناث والنصف الثاني من الذكور، على ألاّ يقلّ عدد المزكّيات والمزكّين من الشباب دون سن 35 سنة عن 25%، ولا يجوز للناخب أن يزكّي أكثر من مترشّح واحد. ومعلوم أنّ هذا الشرط، مع أهمّيته في الحدّ من الترشحات المرتجلة، والعشوائية، فرض تدابير إدارية بيروقراطية تعطّل عملية الترشيح، وتستنزف جهد المترشّح. وجمع هذا الكمّ من التزكيات صعب، خصوصا في الدوائر الانتخابية الصغيرة أو التي تقع خارج البلاد التونسية. والمتابع للشأن التونسي، بعد فتح باب الترشّح لعضوية المجلس التشريعي، يتبيّن أنّ السباق على كسب التزكيات أصبح تجارة نافقة، وسوقا للتربّح وشراء الذمم. وعوّل طيفٌ معتبرٌ من المترشحين في الفوز بتواقيع المزكّين على روابطهم الأسرية ووجاهتهم العائلية، وعصبيتهم العشائرية (العروشية)، وفي ذلك إحياء لروابط ما قبل قيام الدولة الوطنية. فيما عوّل آخرون على قوّة المال والنفوذ الشخصي لشراء الولاء، واستقطاب المزكّين. ومعلوم أنّ ذلك يضرب نزاهة الفعل الانتخابي، ويؤدّي إلى تصعيد نوّاب وصوليين، مستكرشين، تحوم حولهم شبهات فسادٍ إلى البرلمان، فيكون أكثر همّهم حماية مصالحهم الشخصية لا خدمة الصالح العام.

واللافت أنّ المرسوم الرئاسي عدد 55 لسنة 2022 ألغى الفصل 24 من القانون الانتخابي السابق عدد 16 لسنة 2014 الذي نصّ على حتمية التناصف والتناوب بين الرجال والنساء في القوائم المترشّحة للانتخابات التشريعية. وبذلك فقد جرى هدم مكسب حقوقي/ نسوي مهمّ. وهو ما سيؤثر سلبا على نسبة حضور المرأة في البرلمان، فمن الصعب على النساء جمع عدد كبير من التزكيات، في ظلّ هيمنة مجتمع ذكوري، خصوصا في المناطق الطرفية والداخلية. كما استهجن كثيرون تنصيص المرسوم على منع مزدوجي الجنسية من التونسيين من الترشّح لعضوية مجلس نواب الشعب في الدوائر الانتخابية الواقعة داخل التراب التونسي، فكأنّ المهاجر الذي نجح في الاندماج في بلد آخر وتحصّل على جنسية أخرى يُعاقب على نجاحه، فيمنع من الترشح للسباق الانتخابي في بلده الأم. وهو ما يُعدّ إجراءً تمييزياً، ينتقص من مواطنته، ومن حقوقه المدنية/ الدستورية.

سيكون البرلمان المقبل مشتّتا، ضعيفا، مجرّدا من قوّته الرقابية، والتشريعية، بحكم محدودية صلاحياته الدستورية

والملاحظ من خلال قراءة القانون الانتخابي المنقّح، أنه يتجاهل المكوّن الحزبي تماما، فقد جرى حذف الفصلين 22 و23 من القانون الانتخابي لسنة 2014 اللذين نصّا على حقّ الأحزاب في المشاركة الانتخابات التشريعية بصفتها، وبرامجها، ورموزها، وشعاراتها. وإلغاء هذين الفصلين يتقصّد تنظيم انتخابات بلا أحزاب. وفي هذا السياق، صرّح الناطق الرسمي باسم هيئة الانتخابات، محمد تليلي المنصري، بأن "الأحزاب لا يمكنها أن تترشّح ولا يمكنها أن تتقدّم بطلب إلى الهيئة من أجل إجراء تظاهرات أو اجتماعات خلال الحملة الانتخابية"، وليس من حقها، بموجب القانون الجديد، تمويل أي مترشّح. والمراد من إفراغ التمثيل الانتخابي من الحمولة الحزبية هو تحجيم الأحزاب المعارضة الوازنة، وبيان لا جدوى الانتماء الحزبي، وتشكيل مشهد سياسي/ انتخابي جديد ينبني على مشاريع فردية، ذات امتداد محلّوي، ضيّق، لا يرتبط بالأحزاب الكبرى، ولا يمثّل قوّة ضغط ورقابة على النظام الحاكم عموما، وعلى رئيس الجمهورية خصوصا. وينسجم هذا التوجّه مع أيديولوجيا "نهاية الأحزاب" التي روّجها قيس سعيّد وأنصاره، والتي تروم تهميش الأحزاب واستبدالها بتنسيقياتٍ محلّيةٍ موالية للسلطة المركزية.

وبناء عليه، سيكون البرلمان المقبل مشتّتاَ، ضعيفاَ، مجرّداَ من قوّته الرقابية، والتشريعية، بحكم محدودية صلاحياته الدستورية. وسيلهج بمطالب محلّية، وأخرى شخصية، ولن يعبّر النائب عن مطالب وطنية شاملة. بل سيعبّر عن مشاغل محلّية ضيّقة، لأنّه يروم استرضاء ناخبيه المحلّيين، ويُخشى أن يسلّطوا علية سيف سحب الوكالة. وهو ما يجعل النواب في وضعية هشّة، غير مطمئنين لمستقبلهم السياسي. لذلك لن يجدّوا في معارضة النظام القائم ومساءلة السلطة التنفيذية. بل سيكون أغلبهم ميّالين لتأييد النظام الرئاسوي المطلق. وفي ذلك إخلالٌ بمبدأ التوازن بين السلطات، وإنتاج لبرلمان صوري، معطوب وبلون واحد.

ختاما، المرسوم الانتخابي الجديد خطوة أخرى على درب تكريس الحكم الفردي، والانتقال بتونس من زمن العشرية التعدّدية إلى نظام شمولي/ رئاسوي/ أحادي. وهو مرسومٌ في جوهره لتحجيم الأحزاب العضوية، الوازنة التي لعبت دورا فعّالا في الدفاع عن المطالب الشعبية، وفرضت رقابة جدّية على السلطة التنفيذية بعد2011، ويندرج ضمن سردية "من تحزّب خان" التي تروم تفكيك النشاط الحزبي الفاعل وإقامة دولة الرئيس المطلق.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.