قاعة شبه فارغة وجوقة تصفيق
هكذا كان الحال ساعة ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابَه في الجمعية العامة للأمم المتّحدة. أظهرت الكاميرات عشرات من مندوبي ووفود عدّة دول ينسحبون من القاعة عندما اعتلى نتنياهو المنصّة، كما أظهرت تلك الكاميرات أيضاً القاعة، بعد ذلك، وقد بدت شبه فارغة.
يعلم نتنياهو الفارق بين إلقائه خطابه أمام الكونغرس الأميركي، الموالي في غالبه لإسرائيل، وإلقائه خطابَه في نيويورك أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة، حيث لدول كثيرة مواقف ممّا ترتكبه إسرائيل من جرائم في غزّة، وأخيراً في لبنان، وأنّه حين حظي بعواصف من التصفيق من أعضاء في الكونغرس، الذين ما كادوا يجلسون إلى مقاعدهم حتّى عاودوا الوقوف في موجات تصفيق متلاحقة، فإنّه لن ينال تصفيقاً مشابهاً في نيويورك، لذا كان عليه أن يُحضِر معه، من إسرائيل ذاتها، جوقةً من المصفّقين جلسوا في المقاعد العُليا من القاعة المُخصَّصة لغير مندوبي الدول، وهذا ما أظهرته أيضاً كاميرات التغطية لخطاب نتنياهو، إذ لم تكن لأفراد هذه الجوقة من مهمّةٍ سوى التصفيق لسيّدهم في حركات تمثيلية فجّة.
يضعنا هذا المشهد قبالة مفارقة؛ كيف لزعيم دولة منبوذ من دولٍ غير قليلة، كما أظهر مشهد انسحاب وفودها من القاعة احتجاجاً، أن يصول ويجول كما يشاء مرتكباً من الجرائم في غزّة ولبنان، وسواهما، ما تقشعرّ منه الأبدان؟ لماذا لا يمكن تحويل مثل هذه المواقف الرمزية أفعالاً ملموسةً للضغط على دولة الاحتلال لمنعها من التمادي في ارتكاب جرائمها، والوصول إلى حلّ جذري للنزاع المستمرّ منذ عقود بتطبيق القرارات الدولية، التي تنصّ على إقامة دولة فلسطينية مستقلّة؟
ليس الجواب صعباً، ولنقل إنّه معروف لدى القاصي والداني، أنّ القرار الدولي مُحتكَرٌ من الولايات المتّحدة (ومن خلفها بعض أتباعها الأوروبيين)، ولم يجد رئيسها جو بايدن حرجاً في أن يُكرّر عشية 7 أكتوبر (2023) أنّه يفتخر بأنّه صهيوني، فيما جاهر وزير خارجيته أنتوني بلينكن، وهو في تلّ أبيب في الفترة نفسها، بأنّه موجود هناك بصفته يهودياً كما هو وزيرٌ لخارجية الولايات المتّحدة.
احتكار القرار الدولي المتّصل بالمسألة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي هو الذي يحول دون تحويل المواقف المتعاطفة مع فلسطين في بلدان مختلفة، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فعلاً ملموساً وضاغطاً على المحتلّ.
ثمّة جانب في الأمر لا يقلّ أهمّيةً، هو غياب الموقف العربي المُوحّد تجاه المسألة الفلسطينية. لقد وجدنا دولاً عربيةً تُسارع إلى التطبيع مع إسرائيل، في خروجٍ حتّى على المواقف العربية المُوحّدة سابقاً، والقاضية بأنّه لا اعتراف بإسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلّة، وهو الهدف الذي نأى أكثر فأكثر اليوم، لشعور إسرائيل بأنّ يديها باتتا طليقتين أكثر ممّا كانتا عليه، والمحزن أنّه رغم ما يُرتكَب من جرائمَ في غزّة، وحالياً في لبنان، لم نلمس أيَّ رغبةٍ في مراجعة التطبيع، أو على الأقلّ الإعلان عن تجميده نوعاً من الضغط على الاحتلال للحدّ من جرائمه من قتل وتدمير وتهجير لمئات الآلاف من المدنيين.
من أكثر الأمور مدعاةً للحنق ترويج أنّ المُستهدَف إسرائيلياً تنظيمات الإسلام السياسي، ممثّلةً خاصّةً بحركة حماس في غزّة، وبحزب الله في لبنان، وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه القوى، لنعد إلى ما قاله نتنياهو في خطابه أول من أمس، عن السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عبّاس، رغم أنّ هذه السلطة شريكةُ إسرائيل في اتفاقية أوسلو (1993) سيئة الصيت. أكثر من ذلك، لنعد إلى أنّ العدوان الإسرائيلي على فلسطين ودولٍ عربيةٍ أخرى بدأ واستمرّ في زمن لم تكن قوى الإسلام السياسي العربي في صورتها الراهنة قد ظهرت، حدث هذا في 1948، وفي عدوان 1967، الذي احتلّت فيه إسرائيل الضفّة وغزّة وسيناء والجولان وأراضٍ من الأردن، وحدث هذا في اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982، واحتلال أراضيه، مُستهدِفةً المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وهذه الأخيرة بالذات هي من أطلق "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، قبل تكوّن حزب الله بسنوات... نخلص إلى أنّ المستهدف إسرائيلياً هو بسط السيطرة على الأرض الفلسطينية، كاملةً، وانتهاك السيادة الوطنية العربية، وليس "حماس" أو حزب الله وحدهما.