في يوم اللغة العربية
احتفل، في 18 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، كتابٌ، ومثقفون، وناشطون عرب، بيوم اللغة العربية.. طرشوا جدرانَ منصّات التواصل الاجتماعي بالأشعار، والأقوال المأثورة، والجمل التي تدلّ على بلاغة اللغة العربية، وثرائها. يعتقد محسوبكم أن المصدر الرئيس لثراء العربية هو المجاز، فقولُنا إن يوم العربية لم يمرَّ "مرورَ الكرام" بابٌ أول يُفتح على البلاغة العربية، ومنه نتساءل: بماذا يختلف مرور الكرام عن مرور اللئام، أو الأوباش؟ ونتخيّل، في أثناء الإجابة، الإنسانَ الكريم يمضي مرفوع الرأس، لا ترفّ عينه على أعراض الناس، أو أموالهم، كأنه "هريرة" التي ودّعها الشاعر الأعشى في لحظة ارتحالِ رَكْبِها، ووصفَ مشيتها بقوله: كأن مشيتها من بيت جارتها/ مَرُّ السحابة لا ريثٌ ولا عَجَلُ.
أحالنا الأديبُ والصحافي السوري، يعرب العيسى، خلال احتفائه بيوم اللغة العربية، إلى قول سعيد عقل في مديح دمشق: أنزلتُ حُبَّكِ في آهي فشدّدها/ طَرِبْتُ آهاً فكُنْتِ المجدَ في طَرَبِي. ولأنني من عشاق شعر سعيد عقل، نشرتُ بعض ما أحبّ من أشعاره على صفحتي، كقوله، في قصيدة "غنّيت مكّةَ": لو رملةٌ هتفت بمبدعها شجواً/ لكنتُ لشجوها عودا. .. وخرجتُ من قوله في القصيدة ذاتها: وأَعِزَّ، ربِّ، الناسَ كُلَّهُمُ/ بيضاً، فلا فَرَّقْتَ، أو سودا .. بأنه شاعر مولع بالصياغات اللغوية النادرة، إذ يجعل الفعل يتعدّى بنفسه، فلم يقل غنيتُ لمكّة، بل قال غنّيتُ مكّةَ، وغنّيتُ أهلَها الصيدا، ويجعل المصدر المُؤَوَّل يتصل بالضمير مباشرة، كما في قصيدة "نسمت من صوب سورية الجنوبُ"، إذ يقول: أنا إن سألتُ أيٌّ مَضَّني، قالتِ القامةُ (حُبّيكِ) عجيبُ. يقصد بـ حُبّيكِ حبي لك، أو حبي إياكِ.. ويستخدم الجملَ الاعتراضية التي تفصل بين الفعل ومفعوله، وبين المبتدأ وخبره.. ويختار فعلاً نادر الاستعمال كـ "أَعِزَّ". وقبل هذا كتب: مُرَّ بي يا واعداً وعدا/ مثلما النسمةُ من بردى .. وقد حير هذا الفعلُ مذيعةً قابلته، ذات يوم، لاعتقادها أن فعل الأمر يجب أن يكون ساكناً على الدوام، فقال لها: مُرَّ، يا عزيزتي، يُقال للرجل، مثل مُرّي للمرأة، وليس من الضروري أن يكون ساكناً.
شككتُ، مرّة، بوجاهة "حُبِّيهِ"، أي سعيد عقل، فقلت لنفسي: إنه رجلٌ ممتلئ بالنرجسية، وعلى الرغم من محبّته لبنانَ، يَفترض، في بعض تصريحاته، أنه أكبر من لبنان، ومن كل شعراء العربية، ويهزأ من قول زهير: سئمتُ تكاليف الحياة/ ومن يعش ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأمِ. ويتساءل: هل هذا شعر؟ يا رجل، هل ثمّة من يسأم من الحياة الجميلة اللذيذة؟ ويقول إنه يعرف، أكثر من غيره، والعارف، برأيه، مسؤول عن أي شيء يحصل في وطنه، حتى ولو لم يكن ذا سلطة! ومن فرط اعتداده بنفسه يروي، في لقاء متلفز، ما قاله الشاعر سليمان العيسى بحقّه؛ إن الأمة العربية ستعيش مليار سنة لو ظهر فيها، كل مائة سنة، شاعر كسعيد عقل. إن هذا يصل إلى ما سماه المتنبّي "الورم" حينما قال: أعيذُها نظراتٍ منك ثاقبةً/ أن تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُه ورمُ. .. وتساءلت، أيضاً: أين سعيد عقل من نزار قباني، الشاعر الشامي الذي قرأناه في وقت مبكّر من حياتنا، فانخفضت نسبة عدائنا الموروثِ للمرأة، وأحببْنا شعر الغزل من خلاله؟ فأجبتُ نفسي إن نزار نفسه يُلبِس عباءة الشعر لسعيد، حين يقول: إن أشعر العرب سعيد عقل، وإن لم يقبل، فالمتنبي.
من حق سليمان العيسى، كما أرى، أن يشيد بروعة سعيد عقل، من دون أن يعلنه الأول في بلادٍ تنتج الشعر منذ ألفي سنة. ولا بأس على نزار أن يقدّمه حتى على المتنبي، ولكن.. من حقنا نحن أن نُعلي، في يوم اللغة العربية، من شأن القصة والرواية، وعلم الاجتماع، والفلسفة، وأن نضرب بمقولة "الشعر ديوان العرب" عرض الحائط.