في وجوب رحيل محمود عبّاس
كان طيّباً من الرئيس محمود عبّاس أنه عاد نادية لطفي، في مستشفى في القاهرة، أياماً قبل رحيلها، في يناير/ كانون الثاني 2019، ومنحها وساماً رفيعاً، تقديراً منه لـ"إبداعاتها الفنّية ومسيرتها النضالية". وكان جيّداً منه أنه استقبل في رام الله المغنّي العراقي سعدون جابر ومنحَه وساماً (أبلغه أنه يحتفظ بتسجيلاتٍ عراقيةٍ نادرة!). ولا يُنسى تكريمُه المخرج حاتم علي، بعد وفاته، بالوسام نفسه... ومن المعهود أن يلتفت الرؤساء إلى الفنّانين، ومن ذلك استقبال الرئيس محمد مرسي نجوم سينما ودراما مصريين في سبتمبر/ أيلول 2012 (بينهم عادل إمام وحسين فهمي)، وسمعوا منه كلاماً طيّباً، بل استوضح، في الأثناء، عن سبب غياب إلهام شاهين بينهم. وإذا ما استرسلنا، نلقى صداقاتٍ جمعت رؤساء عرب بفنانين من بلادهم ومن غير بلادهم، واحتفاء زعماء عرب بنجومٍ عديدين، أمثال: تكريم الملك حسين فيروز، واحتفاء الحبيب بورقيبة بوردة الجزائرية وبليغ حمدي، وصداقة الحسن الثاني بعبد الحليم حافظ، أما صلة أم كلثوم بجمال عبد الناصر فملفٌ طويل. وذكرت صباح مرّة إن معمّر القذافي عرض عليها الإقامة في ليبيا في أثناء إشكالٍ مرّت به، واعتذرت له. ولقاءات ياسر عرفات بنجوم عربٍ مشهورة، وكذا تكريمه عديدين منهم، وحرص بعضُهم على التقاط الصور معه، وقد زاره في غزّة إبّان إقامة السلطة الوطنية عادل إمام ومحمود ياسين.
إنما القول هنا إن محمود عبّاس يُسرِف كثيراً في انشغالاتٍ كهذه، إلى حدّ أنه يمنح الجنسية الفلسطينية للممثلة السورية سلاف فواخرجي، ويطلب من ممثله في دمشق تكريم دريد لحام وأيمن زيدان وزملاء لهما باسمه في احتفالية مصوّرة. ويحدُث أن يتزيّد فخامتُه في هذا كله ويُزايد أيضاً، فقد استقبل في 2019 أسرة مسلسل إماراتي عن "خيانة الإخوان المسلمين أوطانَهم وتخريبهم فيها" (!)، وبعضهم من الإمارات والكويت والبحرين، وكرّمهم، تقديراً لأعمالهم "الهادفة التي أسهمت في رفع مستوى الوعي الثقافي والوطني لدى أبناء أمتنا العربية". وللحقّ، ربما تستثير بعضَ الإعجاب (والاندهاش؟) مواظبة عبّاس على تأديته أنشطتِه هذه، وتكريمه مغنّين وممثلين وكتّاب سيناريو، في رام الله وفي أسفاره، مثل محمد صبحي ووحيد حامد ولطفي بوشناق وغيرهم.
لا بأس من تثمين ما يؤدّيه عبّاس في بعض هذه الحالات، إنما مبعث الاستهجان، اللازم هنا، أنه يُفرط فيه، وأن سخاءه زائدٌ في منح الأوسمة والدروع، فيحدُث أن فنانين يحرزونها منه لا يستحقون أي تكريم فلسطيني. عدا عن أن واحدَنا يعجب من حرص الرئيس على هذا، الأمر الذي لا نلقاه منه في تكريم أسرى وجرحى وشهداء، فلا نتذكّره زار منزل أيٍّ منهم، وقدّم واجب المواساة. وفي الوسع أن نتمنّى عليه أن يكون على الحرص نفسه في عمله رئيساً لدولة فلسطين، إذ ما ينفكّ يُراكم في هذا بؤساً على بؤس. وواقعتا استقباله ممثلاً (ومغنّياً؟) مسفّاً، في نيويورك، وارتجالاته شديدة السخف والتعاسة في كلمته في الأمم المتحدة في إحيائها ذكرى النكبة، تدلّان على المستوى الركيك الذي وصل إليه الرجل. لا سيّما أنه بدا وهو يحتفي بالممثل محمد رمضان مبتذلاً، وكذلك في حديثه الذي يستجدي فيه الحماية للشعب الفلسطيني، وسوء خياله عندما ماثل ضرورة "احمونا" مع حماية الحيوانات في المنازل. وقد أكّد في هذا وذاك المؤكّد مجدّداً، أنه صار مؤذياً للقضية الفلسطينية، ولا يليق أن يكون العنوان السياسي الذي يمثل شعبها، فضلاً عن تآكل كل شرعيّته منذ سنوات، وهو الذي اختلق ذرائعه إياها في عدم إجراء انتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانيةٍ، وكان من عجائبها أنه كان مرشّحاً فيها، بعد أن شهد الشعب الفلسطيني رداءة حضوره في غير محفل. والسيئ في أمر احتفاليّته برمضان أنها جاءت بعد صمَمه وخرسه، وغيابه التام، في غضون الاعتداء الإسرائيلي، أخيراً، على قطاع غزّة. لم نرَه يقول شيئاً، لم يُخاطبه أحد. لقد بدا غير ذي صلةٍ بالمشهد، وكأنه يؤكّد صفته هذه.
لمّا زار محمود عبّاس نادية لطفي في مشفى عسكري في القاهرة، استذكرنا زيارة النجمة بيروت، في أثناء الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982، ولقاءَها مقاتلين فلسطينيين وياسر عرفات في الميدان. أما لقاء عبّاس برمضان أخيراً فلم يذكّر الناس بغير بؤس عبّاس نفسه، لا سيّما بعد الفجيعة به في كلمته تلك في الأمم المتحدة، وقد شوهد فيها بلا خيال، ولا زعامة، ولا جاذبية، ولا منطق، ولا رقيّ ... وهذه كلها وغيرها أسبابٌ تدعو إلى الرجاء منه: ارحَل، غادِرْنا يا رجل، لترتاح ونرتاح منك.