في هذا العماء الكبير

28 يونيو 2021

(إبراهيم الحسون)

+ الخط -

يحق لنا أن نغبط أولئك السعداء المطمئنين إلى الحياة، غير المعنيين بالشأن العام، المنهمكين في شؤونٍ مسليةٍ صغيرة، تلتهم وقتهم وتستنفد طاقاتهم، فلا يتعدّى نطاق اهتماماتهم أكثر من متابعة مستجدات خصومات الفنانات، وإبداء الإعجاب بأغنية حسن شاكوش الجديدة، وملاحقة نجوم "التيك توك" من المراهقين الذين يحصدون ملايين المتابعات، ويجنون أموالا طائلة من محتوياتٍ بالغة التفاهة والسطحية والابتذال. هذه الفئة المحظوظة غير المكترثة بشيء تنام ليلها الطويل بلا أرق أو قلق أو كآبة، فلا يقضّ مضجعها مثلا نبأ عظيم، مثل مصرع معارضةٍ شابّةٍ لقيت حتفها في حادث سير، وهي التي لها مواقفها من سياسة القمع والتطبيع في بلادها التي تعتقل والدها منذ سنوات، ولاحقتها في شتاتها. خبر كهذا لا يجلب لهم سوى الهمّ والغم، فيتحاشونه بمهارة، ولا يجدون وقتا للوقوف على حكاية هذه المناضلة الشجاعة التي ماتت على مرأى من العالم. يمرّون على نبأ صاعقٍ كهذا من دون أدنى تعاطف أو اكتراث، كونهم مهتمين أكثر بأغنية هيفاء وهبي الجديدة التي كسّرت الدنيا، كما يقولون! ولن يواجهوا مأزقا أخلاقيا من أي نوع مع ذواتهم إزاء اغتيال الناشط الفلسطيني، نزار بنات، بكل وحشية، على أيدي رجال أمن اقتحموا بيته، وقتلوه غيلة في فجر يوم أسود. اختلف كثيرون مع نزار، بسبب موقفه من عذابات الشعب السوري، لكن ذلك لن يمنع أي صاحب ضمير حي من إدانة تصفيته بهذا الشكل الوحشي الفج الفاجر، فقط لأنه واجه سلطة بلاده بالانتقاد السلمي. لن يعاني أولئك اللاهون من أي مشاعر غضب.
أما من ابتلاهم الله باليقظة والانتباه لما يدور في بلادهم من جور وفساد، فإنهم يتنازلون طوعا عن لذّة العيش الهانئ البسيط، ويدسّون أنوفهم في الشأن العام، ويعبّرون في كل مناسبة عن مواقفهم المبدئية الرافضة، فيدفعون الثمن من مشاعرهم وأعصابهم. يتعالون على أحزانهم الشخصية، وينخرطون في هموم الشعوب، على الرغم من إحساسهم بالعجز واليأس والخذلان. يتابعون نشرات الأخبار، على الرغم من نصائح الأطباء، ويتملكهم إحساسٌ فظيع بالذنب، إذا ما دهمتهم لحظة فرح عابرة، لأنهم يدركون مقدار الحزن والقهر المتراكم في أوطانهم. وسرعان ما يعودون إلى التجهم والسخط، تناغما مع واقع الحال البائس في كل بقاع هذا الوطن المشتت، المقطعة أوصاله، المستباح المنهوب المدمر. يعتبرون أنفسهم فرقةً ناجيةً من أوهام الإنجازات الكبرى التي يسوقها منظّرون متكسّبون، لأنهم في واقع الأمر ملعونون بالوعي والمعرفة الفائضة التي لن تؤدّي إلا إلى مزيد من القهر والسخط والإحساس باللاجدوى. تعتبرهم الأغلبية أشخاصاً متشائمين، متجاهلين نصف الكأس الملآن، ناعقين بالخراب مثل جوقة بومات عجائز!
يتفاداهم المجموع كونهم نماذج نكدة سلبية غير قادرة على المساهمة في عملية البناء والنهضة القائمة على قدم وساق عرجاء شوهاء. يأخذ اليأس ببعضهم إلى منطقة العبث والاستسلام المطلق لمعطيات الواقع، فيما يظل كثيرون منهم قابضا بكل العناد الممكن على جمرة الإيمان بحتمية التغيير، وضرورة السعي إلى نيل الحرية وتحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. ولعل هؤلاء هم الأمل الوحيد المتبقي في هذا العماء الكبير، وهم المنكوبون بيقظة الضمير وشدّة الاكتراث التي تكلفهم حياتهم أحيانا كثيرة، فيقتل بعضهم في عواصم غريبة بشكل مجاني. وفي أحسن الأحوال، ينبذون ويستبعدون، ويزجّون في غياهب السجون. وعلى الرغم من ذلك كله، هم الخلاص الحقيقي لهذه الأمة المهدّدة في مستقبل أبنائها الحالك المظلم، المغرر بها، المشغولة بتوافه الأمور، فيما الكوارث الكبرى تنهال فوق رأسها تباعاً.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.