في نجاح المنتدى السنوي لفلسطين
أخذت جلساتُ المنتدى السنوي لفلسطين، في دورته الثانية التي اختُتمت أمس الاثنين في الدوحة، بالذي كانت عليه دورته الأولى قبل عام، فقد توزّعت في أربعة مساراتٍ في وقتٍ واحد، وقُدّمت في كلٍّ منها أربع مشاركاتٍ. ولما كُنتَ قد اطّلعتَ على برنامج هذه الجلسات، التي أعقبتْها في أيام المنتدى الثلاثة جلسةٌ عامّةٌ أو اثنتان، وفيك الرّغبةُ في أن تتابع هذا النشاط الثقافي والمعرفي والفكري والإعلامي، لتفيدَ مما اجتهَد فيه المشاركون، ومما يطرحون من مقترباتٍ وتصوّراتٍ في غير شأنٍ فلسطيني، فإنك لا بدَّ ستستثني جلساتٍ، وتتخيَّر أخرى تستجيبُ لاهتماماتك في الموضوع الفلسطيني العريض، التاريخيّ منه والراهن، الثقافيّ العام والسياسيّ المتعيّن، غير أنك قد تستشعرُ أن ثمّة ما فاتك وكنتَ تودُّ أن تسمَع بشأنه. على أنك، في أيام المنتدى الذي تنوّعت فيه مشاغل أكثر من مائة ورقةٍ وبحثٍ ومشاركة، في 23 جلسة وأربع ندوات عامّة، ستبتهج بكفاءاتٍ فلسطينيةٍ ذات اقتدارٍ ظاهرٍ في البحث والتقصّي والدرس والتحليل، وفي مقاربة الأسئلة والمنهجيّات، وفي موضوعاتٍ متنوعةٍ تصل الراهن الفلسطيني بوقائع في ماضٍ فلسطينيٍّ ما زالت ندوبُه وآثارُه وتداعياتُه باقية وفاعلة.
ولمّا كان المنتدى قد بهر ضيوفا ومشاركين فيه، لم تتيسَّر لهم فرصة حضور سابقِه في العام الماضي، فإنّ إعجاباً غزيراً، لا شكّ، سيتمكّن منك، بهذه الطاقات، سيّما من الشباب في جامعاتٍ فلسطينيةٍ وأوروبيةٍ وأميركيةٍ وعربية، منشغلين أولاً بالموضوعة الفلسطينية بكل أبعادها، مهجوسين ثانياً بأن فجواتٍ عديدةً في أسئلةٍ وشؤونٍ فلسطينية، في مقاطع تاريخية وفي سياقاتٍ اجتماعيةٍ وفي إشكالاتٍ ثقافية وفي قضايا سياسية، تحتاج إلى شُغلٍ بحثيٍّ كثير، وكلُّهم ثقةٌ بقدراتهم في عبور هذا الاشتباك الشديد الضرورة مع تعقيدات الحالة الفلسطينية، على أيِّ مستوى، بصلاتها العويصة مع الشأن الإسرائيلي والهمّ الإقليمي العام وبخرائط العلاقات الدولية.
أوضح الاهتمام العام في أوساطٍ فلسطينيةٍ وعربيةٍ عريضة، الذي أحرزه المنتدى (وهو لفلسطين وليس منتدى فلسطين)، وكذا الاستقبال الخاصّ الذي قوبل به في أوساط البحث والدرس والمعرفة، أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وشريكتُه مؤسّسة الدراسات الفلسطينية لم يختبرا رهاناً على حُسن تنظيم فعاليةٍ يُستضافُ فيها مئات المشاركين والحضور، وإنما اختبرا رهاناً ثقافياً وفكرياً، ووطنيّاً عربياً في محملٍ يلزم الإشارة إليه، عنوانُه فلسطين وقضيّتها وتغريبةُ شعبها منذ ما قبل النكبة الأولى وصولاً إلى النكبة الحادثة في غزّة، وانعقد النجاح المؤكّد لهما في هذا الرهان، عندما استشعرا (المركز والمؤسّسة) أن فلسطين تستحقّ دائماً، وفي كل وقت، أن تبقى في قلب الجُهد الأكاديمي والتوثيقي والتحليلي لهما، على ما قال مُحقّاً رئيس مجلس أمناء مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، طارق متري، في كلمته الافتتاحية للمنتدى، وذلك "استجابةً لاحتياجات الرأي العام الحاضرة، بحيث تكون مرجعاً، لا عن الماضي فحسب، بل عن الأوضاع الحاضرة"، على ما أوضح، سيّما وقد أضاف إنّ "من الواجب إطلاق برامج جديدة وامتلاك أدواتٍ للمتابعة فرضت الأوضاع الراهنة الحاجة الملحّة إليها، وهو الهدفُ الأساس من هذا المنتدى، وهو مناسبةٌ لتيسير الحوار بشأن القضية الفلسطينية، وحافزٌ للمزيد من العمل".
والراجح، كما عوين وشوهد، وكما استقرّ الرأي والتقييم، أن فلسطين، في الأرشيف الفلسطيني الحيّ، وفي مسارات كفاح شعبِها، وفي اتصال أفقها التحرّري بقضايا الإنسان والحرية والعدالة في العالم، أن فلسطين، شباباً وأجيالاً متعاقبة، واقتصاداً وحكايةً، وفضاءاتٍ مدينيةً وريفيةً وقروية، أن فلسطين التي يتعرّض أهلُ غزّة منها إلى حربِ إبادةٍ مشهودة، أن فلسطين التي تلحّ على الفاعلين من نخبتها بوجوب حماية مشروعٍ وطنيٍّ متجدّدٍ من أجل خَلاصها من احتلالٍ استيطانيٍّ يرتكب تمييزاً عنصرياً ظاهراً، فلسطين هذه كلها حضرت في المنتدى، وحضرت مسؤوليةً على المثقّفين الفلسطينيين، جاء المفكّر العربي، عزمي بشارة، على الأجدى أن يقوموا به في لحظة غزّة الراهنة، وذلك في المحاضرة الافتتاحية للمنتدى الذي كان العدوانُ في غزّة موضوعةًً مركزيةً فيه، والمأمولُ أن يكون المشروع الوطني والأفق السياسي اللذيْن تُتيحهما التضحياتُ الجسيمة التي دفعها الشعب الفلسطيني في غزّة قد تبيّنت مدارجهما وخطواتُهما، وبدأت مساراتُهما حقيقةً منظورةً، فيكونا في صلب مداولات المنتدى في دورته الثالثة العام المقبل.