في معنى نضال أم كلثوم الوطني

27 فبراير 2023
+ الخط -

بين الفن والسلطة علاقة جدلية تجاوزت لحظة الإمتاع المتبادل، كما كان الأمر في الماضي التليد، إلى لحظة الانتفاع المتبادل: ترى السلطة في الفن أداةً من أدوات الهيمنة، ومسلكاً من مسالك التأثير في المجتمع، عبر شخصية الفنان التي تحظى بحبّ ورضى شعبيين، فيما يرى الفنان في السلطة قوة قادرة على منحه مكانة سياسية، من حيث هو جزء في معادلة تدعيم مشروعية النظام وسرديته. أما مع فاطمة بنت الشيخ المؤذن إبراهيم السيد البلتاجي (أم كلثوم)، فإن العلاقة بين الفن والسلطة في مستوى آخر، وذات خصوصية فريدة من نوعها، فرضتها فرادة أم كلثوم.
لم تكن العلاقة الجدلية بين الفن والسلطة محور اهتمام كريم جمال مؤلف كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" (تنمية، القاهرة 2022)، فعنوان الكتاب يوضح ماهيته، لكن كشفه تفاصيل كثيرة لدور سيدة الغناء العربي في دعم المجهود الحربي يوضح التأثير الكبير الذي أدّته، من موقعها فنانة، في المشهد السياسي المصري بعد "نكسة" 1967. بعد أن لم يدم رد فعلها على الهزيمة العسكرية سوى أيام اعتكفت فيها وحيدة داخل بدروم فيلتها في الزمالك، لكنها سرعان ما انتفضت على واقع الحزن الأليم، حين أدركت أن هزيمة الروح المصرية أخطر من الهزيمة العسكرية.
يشرح كريم جمال تفاصيل دور أم كلثوم في دعم المجهود الحربي، بدءاً من 20 يونيو/ حزيران 1967، حين تبرّعت بـ 20 ألف جنيه إسترليني لخزانة الدولة المصرية، ثم تشكيلها "هيئة التجمع الوطني للمرأة المصرية" لتوحيد صفوف المرأة المصرية في دعم المجهود الحربي بالمال والمصاغ. وما إن حلّ شهر أغسطس/ آب، حتى بدأت أم كلثوم تخصيص حفلاتها الغنائية للمجهود الحربي، فقرّرت إقامة 24 حفلة في 24 مدينة، وكانت مدينة دمنهور المحطّة الأولى. مع انتهاء الحفلة، تقدّم محافظ دمنهور، وجيه أباظة، إلى أم كلثوم وقدم لها شيكاً بمبلغ 38750 جنيهاً، تبعه تقديم عضوين من المكتب التنفيذي للعمّال والفلاحين في الاتحاد الاشتراكي 30 كيلوغراماً من الذهب إلى أم كلثوم، باعتبارها مدشّنة حملة التبرّعات وراعيتها، ليصل إجمالي التبرّعات في المدينة إلى نحو مئة ألف جنيه. وقال المحافظ عن أم كلثوم: "لا نستقبلها كفنانة عظيمة فقط يأسرنا فنّها ويروينا، وإنما نستقبلها كمناضلة في طليعة المناضلين بأمضى سلاح، سلاح الفن".

كانت رحلة أم كلثوم الباريسية بمثابة زلزال إعلامي، حيث هيمن الحدث على وسائل الإعلام الفرنسية والأوروبية بشكل كبير

تتبع كريم جمال رحلات أم كلثوم الداخلية، بما فيها الإسكندرية التي كان الوضع فيها أكثر أثراً، فقد بلغت التبرّعات نحو 400 ألف جنيه، وكانت أم كلثوم على موعد مع بعثة من التلفزيون الفرنسي جاءت إلى المدينة لتصوير الحفل، ليتسنّى للتلفزيون الفرنسي عرض لقطات منه، قبيل الحفل المرتقب للسيدة في باريس منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، في رحلتها التي شكلت نقطة تحول، ليس بسبب اعتبارها البداية الحقيقية لحفلات المجهود الحربي الخارجية فحسب، بل لأنها وضعت أم كلثوم أمام المستمع الغربي. ويروي الكتاب كواليس اتخاذ القرار بدعوة كوكب الشرق إلى باريس، قبل التعاقد مع أم كلثوم وبعده، وتفاصيل ممتعة يرويها جمال، لتعلن كوكب الشرق بعد الاتفاق بأشهر خبر غنائها في باريس لصالح المجهود الحربي: "سوف أغني في أوروبا من أجل قضية بلدي، سوف أقول لكل أوروبي أقابله إن كل سنت يدفع لإسرائيل يمكن أن يتحوّل إلى رصاصة تقتل عربياً". وكانت رحلة أم كلثوم الباريسية بمثابة زلزال إعلامي، حيث هيمن الحدث على وسائل الإعلام الفرنسية والأوروبية بشكل كبير، إلى درجة أنه لأول مرة في تاريخ مسرح الأولمبيا الباريسي، تُباع تذاكر على الواقف للمستمعين. وفي اليوم التالي لانتهاء الحفل الذي كان على يومين، أقامت أم كلثوم مزاداً علنياً في المسرح، باعت فيه صوراً لها موقّعة بإمضائها للجماهير، وباعت عقداً من مجموعتها الذهبية، وخصص ذلك كله مع أجرها على الحفل (14 ألف جنيه إسترليني) للمجهود الحربي.
كانت باريس المحطة الأولى لأم كلثوم في سياق حفلاتها الخارجية المخصّصة للمجهود الحربي، وإن كانت هذه الحفلة قد قرّرت قبل هزيمة حزيران، لتكون محطتها الثانية في المغرب. وبين حفلها في باريس وسفرها إلى بعض البلدان العربية، حصل تغير في مزاج الشارع المصري. فبعد خروج الجماهير إلى الشارع لثني جمال عبد الناصر عن قراره التنحّي، بدأت مظاهرات تحمّله المسؤولية عن الحرب، وتعبّر عن سخطها لعدم وجود محاسبة حقيقية للذين سبّبوا الهزيمة. وفي هذه الفترة، أخذت كلمات أم كلثوم عن الحب والوطن تحمل معاني كبيرة في قلوب المصريين.

جولة أم كلثوم الغنائية في المغرب العربي كانت لهدف سياسي يتعلق بتقريب (وتحسين) العلاقة بين مصر والبلدان التي كانت على خلاف مع عبد الناصر

كان يوم 4 مارس/ آذار 1968 في المغرب يوماً تاريخياً حين وقفت سيدة الغناء العربي على مسرح محمد الخامس في الرباط، وظهرت ترتدي القفطان المغربي تحية للشعب المغربي، في لفتة تعبّر عن ذكاء ووعي عالٍ. ويلفت كريم جمال إلى أن جولة أم كلثوم الغنائية في المغرب العربي لم تكن من أجل جمع الأموال للمجهود الحربي فقط، بل أيضاً لهدف سياسي يتعلق بتقريب (وتحسين) العلاقة بين مصر والبلدان التي كانت على خلاف مع عبد الناصر، وخصوصاً تونس، في ظل رئاسة بورقيبة. لكن القيادة التونسية قرّرت دعوة أم كلثوم لإقامة حفلة في تونس بعد النجاح الباهر لزيارتها المغرب، وقد صادف وجودها في تونس مع حلول الذكرى السنوية لهزيمة يونيو، فخُصّصت خطبة الجمعة في كل مساجد البلاد للترحّم على شهداء الحرب.
عادت أم كلثوم إلى القاهرة، فيما الأجواء السياسية ملبدة بفعل آثار الهزيمة والتوتر في الشرق الأوسط، لكن لقاء القمة الفني السادس بينها وبين محمد عبد الوهاب طغى على الصحافة، وكان مسرح دار سينما قصر النيل على موعد في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول مع أغنية "هذه ليلتي" من تأليف الشاعر اللبناني جورج جرداق. وفي الأثناء، لم يقتصر دور أم كلثوم على جمع المال لدعم المجهود الحربي، بل زادت من حفلاتها من أجل دعم سكان مدن القناة الثلاث الذين هُجّروا منها نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف إلى المحافظات المصرية. ووجهت مجهودها نحو دعم الأسر المهجّرة ومحاولة إيجاد عمل لأبنائها من خلال التنسيق مع الوزارات الحكومية وبعض الشركات الخاصة. وربما كانت كلمات عبد الناصر لها أبلغ تعبير: "إنك تقومين بتعبئة عالمية لصالح قضية التحرير ولوحدك من غير جيش، وإنك حقّقت الوحدة العربية اللي بنحلم بيها". وقد تتبع كتاب كريم جمال جولات أم كلثوم الغنائية، بعد باريس وتونس، في ليبيا والسودان والكويت، ثم في الاتحاد السوفييتي الذي بلغها فيه نبأ وفاة جمال عبد الناصر، الحدث الذي أصابها بضربة قوية جداً، فألغت حفلتها الغنائية في موسكو، ويتابع الكتاب أيضاً حفلتها الخارجية الأخيرة في أبوظبي، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1971.

راهنية كتاب كريم جمال تكمن في تظهيره مسألة الانتماء الوطني والأخلاقي للفنان ودوره وتأثيره

قُدّر لأم كلثوم أن تعيش عقدها الأخير رافعة فنية ووطنية وقومية. ففي السن التي كان متوقعاً أن تتراجع فيها قدراتها، وقعت الهزيمة العسكرية لتغيّر مسار سنواتها الثماني الأخيرة، ولتكون الصوت الذي يعيد الزناد للبندقية والقوة للضعيف، ويرفع الأصوات ويقوي الهمم، ويجمع المال. وجاء كتاب كريم جمال ليضيء على مرحلة تاريخية من حياة الأمة العربية، وعلى شخصية وحّدت العالم العربي بحبه لها. لكن راهنيته تكمن في تظهيره مسألة الانتماء الوطني والأخلاقي للفنان ودوره وتأثيره في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، حين يغدو شخصاً استثنائياً، ما يطرح، في هذا المقام، أسئلة كثيرة عن دور الفنان العربي اليوم في هذا المفصل التاريخي المهم الذي يمرّ به العالم العربي في نضاله ضد الاستبداد.
... لم يكن دور أم كلثوم الوطني يتعلق بجمع المال فحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، في إبقاء القضية الوطنية المصرية حاضرةً في أذهان الشعب المصري والعربي ومشاعره، وفي إبقاء هذه القضية على المسرح العالمي من خلال فنها. وقد كتب موسى صبري في 17 يونيو/ حزيران 1967 مقالة في صحيفة الأخبار المصرية تحت عنوان "خذوا القدوة من أم كلثوم"، في إشارة إلى فنانين هربوا من مصر إلى لبنان للتملّص من المشاركة في التبرّعات.
إذا كان الدوْران، الوطني والفني، العظيمان اللذان قامت بهما سيدة الغناء العربي يعودان إلى مكانتها الفنية الهائلة من جهة، وانتمائها الوطني إلى قضايا وطنها الجريح من جهة أخرى، فإن هذين الدورين يجب أن يشكّلا قدوة لفنانين عربٍ كثيرين، ممن آثروا دعم الأنظمة السياسية على حساب الشعوب.