في مستقبل الملَكيّات

14 سبتمبر 2022
+ الخط -

أعادت وفاة الملكة إليزابيث الثانية النقاش بشأن الجدوى من وجود أنظمة ملكية في عصرنا الحالي. وتناولت هذا النقاش كبريات وسائل الإعلام البريطانية، بما فيها مؤسسة "بي بي سي" العمومية، والمعروفة بتقاليدها الصحافية العريقة في المهنية والاستقلالية. ويمكن التمييز داخل هذا النقاش بين مستويين: مستوى يتناقش داخله الإصلاحيون الذين يرون أن الملكيات، بما فيها الإنكليزية، مطالبة بالتحديث وتجديد نفسها لمواكبة العصر الحاضر ومسايرة المتغيرات المتلاحقة التي يشهدها عالمنا اليوم. ومستوى ثان يعتقد المنخرطون فيه أن الوقت قد حان لإعلان نهاية الملكيات، ويرون في وفاة الملكة إليزابيث الثانية فرصتهم للتخلص من الأنظمة الملكية البالية، على حد اعتقادهم.

وبعيدا عن السقوط في النمطية، تجب الإشارة بداية إلى أن الأمر هنا لا يتعلق بنقاش مستقبل الأشخاص، وإنما بمدى مسايرة نمط حكم قديم، قدم الإنسان، يتوارث عبر الأزمان في أوطان عديدة، لمتطلبات العصر الحديث، ومدى تجاوبه مع عقليات الأجيال الصاعدة. كما ينبغي القول إن النقاش هنا لا يخصّ مستقبل الملكية البريطانية، وإن كانت هي موضوع النقاش العام المشار إليه أعلاه، فالملكية في بريطانيا تحولت إلى تراث ثقافي وإنساني وسياحي تصعب زحزحته، والملكة الراحلة كانت بمثابة علامة تجارية مميّزة للمملكة المتحدة.

ومن يشاهد اليوم مراسم نعي الملكة الراحلة وعزاءها وتشييعها لا يملك إلا أن ينحني أمام دقة التقاليد والطقوس المثيرة للإعجاب وصرامتها وجمالها، التي يُنظمها البريطانيون لتوديع ملكتهم إلى مثواها الأخير، وهو ما يعبّر عن التقدير والاحترام والحب الذي يكنونه لملكتهم الراحلة التي لا يمكن الفصل بين شعبيتها الشخصية وشعبية المؤسسة الملكية، كنمط للملك اختاره البريطانيون منذ ألف سنة. وهذه نتيجة عملٍ جبّار صاغته الملكة الراحلة سبعة عقود من حكمها تكونت خلاله عاطفة شخصية ما بينها وبين شعبها، ونُسِجت محبّة مرتبطة بشخصيتها التي كانت لها كاريزما ساحرة، كأنها بطلة من أسطورة قديمة متجدّدة.

فرضت الملكة نفسها طوال العقود السبعة الماضية أيقونة وشخصية اعتبارية في حياة رعاياها البريطانيين

مؤكّد أن الملكية البريطانية أصبحت راسخة، واستطلاعات الرأي تظهر أن أغلبية البريطانيين ما زالوا يؤيدون النظام الملكي، والأصوات المناهضة له قليلة ولا تكاد تُسمع. ومع ذلك ما زال السؤال يطرح في وسائل إعلام بريطانية جدّية وذات مصداقية عن مدى جدوى النظام الملكي في عصرنا الحالي، في ظل وجود جيل شاب ليس له التقدير نفسه للملكية وطقوسها الثقيلة. وثمّة من يرى أن السر في استمرار الملكية في بريطانيا كان مرتبطا بشخصية الملكة الراحلة، وبجيل قديم من البريطانيين تعودوا على الملكية، وعلى وجود شخصية إليزابيث الثانية التي فرضت نفسها طوال العقود السبعة الماضية أيقونة وشخصية اعتبارية في حياة رعاياها البريطانيين.

وبالإضافة إلى الأدوار الدستورية التي تلعبها الملكية في بريطانيا، للحفاظ على صون الديمقراطية والحفاظ على وحدة الأمة، بفضل حيادها السياسي وعدم تدخلها في الشأن العام، وابتعادها عن الجدل السياسي، فهي أيضا مورد اقتصادي مهم له فوائد واضحة، خصوصا على قطاع السياحة، بما أن المؤسسة الملكية نفسها بطقوسها ورموزها وأعيادها تحولت إلى تراثٍ سياحيٍّ مدرٍّ للدخل.

وريث الملكة إليزابيث الثانية لا يحظى بالشعبية نفسها، وعهده لن يكون مفروشا بالورود كما عهد والدته

لكن بالرغم من كل الإرث الذي خلفته الملكة الراحلة، إلا أن هذا لا يمنع الحديث اليوم في بريطانيا عن وجود تحدّيات تواجه شعبية المؤسسة الملكية داخل المملكة المتحدة، ستظهر بقوة بعد أن تتوارى مشاعر التأثر بموت الملكة التي كان يصعُب التمييز بين محبّة الناس شخصيتها الكاريزماتية وحرصهم على الحفاظ على نظام ملكي أصبحت أدواره بروتوكولية، على الأقل في دولتين من دول المملكة المتحدة، أيرلندا واسكتلندا التي تطالب بالاستقلال عن المملكة المتحدة، من دون الحديث عن 14 دولة تابعة للتاج البريطاني، أهمها أستراليا ونيوزيلندا وكندا التي قد يُستأنف فيها النقاش مباشرة بعد انتهاء مراسم العزاء ودفن الملكة بشأن أهمية بقاء النظام الملكي في هذا البلد. أما في نيوزيلندا فيعتقد مناهضو النظام الملكي أن الوقت مناسب لإثارة النقاش بشأن الجدوى من وجود رئيس شرفي لبلدهم، يمثله ملك لا يحظى بشعبية كبيرة بين السكان الأصليين الذين ينظرون إلى الملكية إرثا استعماريا حان الوقت للتخلص منه.

أكبر تحدٍّ سيواجه الملك الحالي لبريطانيا تشارلز الثالث هو التحدّي نفسه الذي واجه والدته عند تنصيبها قبل 70 سنة، مع فارق كبير في السياقات والظروف التاريخية لكل مرحلة. وكما ورثت الملكة الراحلة إمبراطورية متهالكة على وشك الاندثار، ودولة شبه محطّمة خرجت للتو من الحرب العالمية الثانية ببنيات مدمرة واقتصاد منهار، فإن وريثها يخلفها اليوم على رأس مملكةٍ على وشك التفتت، ودولة تعيش أزمات اقتصادية متعدّدة ومستعصية، في ظل وضع دولي مضطرب، بدأت مع التداعيات الكارثية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وعمقتها جائحة كورونا وآثارها السيئة على جميع مناحي الحياة في بريطانيا، وزادت من حدّتها الآثار الكارثية للحرب الأوكرانية على الاقتصاد وعلى معيشة الناس.

التحدي الأول أمام الملك الجديد سيكون ترميم البيت الداخلي لعائلته، وإصلاح صورتها في الخارج

وإذا كانت شخصية إليزابيث الثانية وشعبيتها وقربها من الناس وتعوّدهم عليها، كلها عوامل أقنعت البريطانيين بضرورة وجودها وبشرعيتها، فإن وريثها لا يحظى بالشعبية نفسها، وعهده لن يكون مفروشا بالورود كما عهد والدته، إن لم يبادر إلى صياغة دور جديد للملَكية يساير متطلبات العصر، ويخفّف من ثقل وجودها في حياة الشعوب التي لم تعد الأجيال الصاعدة فيها ترتبط تاريخيا بتقاليدها العتيقة، وترى فيها عبئا اقتصاديا عليها، من دون الحديث عن صورة العائلة المالكة التي لم يعد كل أفرادها يحظون بالتقدير والإعجاب الذي يلاحق المشاهير عامة، بسبب تصرفات شخصية خاطئة وخلافات أسرية أضرّت كثيرا بصورة الأسرة الملكية. لذلك التحدي الأول أمام الملك الجديد سيكون ترميم البيت الداخلي لعائلته، وإصلاح صورتها في الخارج. فهل سينجح الملك، الذي لا يحظى بالإجماع نفسه الذي كانت تحظى به والدته، في رفع كل هذه التحدّيات التي تسائل مستقبل الملكية، ليس في بلاده فحسب، التي تعد أقدم ملكية في العالم، وإنما في باقي أنحاء العالم؟ وإذا كان هذا حال أعرق ملكية في العالم تجرّ وراءها تاريخا عريقا وتقاليد راسخة، فما بالك بالملكيات المطلقة التي ما زال الملوك فيها يسودون ويملكون ويعاملون رعاياهم معاملة العبيد؟!

في عصرنا الحالي، الذي يتراجع فيه دور الملكيات في أوروبا التي تحوّلت أغلبها إلى مؤسسات شكلية لا نكاد نرى أو نسمع عنها شيئا، وفي ظل المشكلات التي تمر بها ملكية قديمة وعريقة، مثل الموجودة في إسبانيا التي نخرها الفساد من الداخل، ما زالت المؤسسة الملكية البريطانية تعطي الانطباع أن الديمقراطيات الأكثر استقرارا هي الملكيات الدستورية. وإذا ما فرّطت الملكية البريطانية في هذه الصورة، فذلك لن يؤثر على مستقبلها فقط، وإنما أيضا على مستقبل (وصورة) ما تبقى من الملكيات في باقي أرجاء العالم.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).