في مديح التفاهة
مقابل خمود رغبتي في اكتشاف اللغز الكامن وراء تعديل العطلة الأسبوعية في دولة الإمارات إلى يومي السبت والأحد، تشتعل لدي رغبة مقابلة في اكتشاف اللغز الكامن وراء قدرة الطماطم على امتصاص ميوعة الملوخية. والحال أن هذه الميوعة كانت من أسباب الإرباك عند تناولها على المائدة، سيما في دعوات الطعام الخارجية، إلى أن اكتشفت نساء أن إضافة قطعة طماطم على الطبخة قبيل فورانها بدقائق كفيلٌ بحل مشكلة الميوعة نهائيًّا، ما يتيح لعشاق الطبخة التمتع الكامل بها من دون حاجة لملاحقة الخيوط اللزجة التي تلتصق باللقمة من أول الصحن حتى آخر الفم.
والحال أنه لم يتح لي اكتشاف لغز قطعة الطماطم المضافة إلا ذات إجازة أسبوعية قبل سنوات بعيدة، قيّض لي فيها أن أتابع طبخة ملوخية في البيت، وكنت شاهد عيان على مفعول غمس قطعة طماطم في الطنجرة، مثلما قيّض لي مراقبة قطط الحيّ لأول مرة وهي تتمطّى على أبواب المنازل، واستمعت إلى أحاديث نساء الحارة عن آخر عمليات الزواج التي نفّذت بتخطيط مبيّت.
مثل هذه "الاكتشافات" التي لم أكن أعيرها التفاتًا حدثت في العطل الأسبوعية عمومًا، ولا أعتقد أن في ميسور أي كاتبٍ أو موظفٍ مزدوج، في العمل والبيت، أن يعير التفاتًا لما يعتبرها "ترّهات" أو "قضايا هامشية" (في أفضل تسمياتها) مقابل "القضايا المصيرية" المسكون بها على الدوام.
غير أن "التفاهة" مطلوبة أحيانًا، وأغبط من يعيشها؛ لأنها وحدها الكفيلة بتحرير العقل، وليس "الحقيقة" كما يزعم الفلاسفة. أحيانًا نحتاج أن نلقي الصحف والكتب جانبًا، وأن ندير مفاتيح التلفاز عن القنوات الجادّة إلى القنوات المنشغلة طوال اليوم بفنون الطبخ، وصيحات الموضة وتصفيف الشعر. ما الضير لو تابع الكاتب برنامج "جويل"، مثلًا، أو استمع إلى أغان هابطة على غرار "بحبك يحمار" أو "الطشت ألّي"... أليس الفنّ الهابط رديفًا للسياسة الهابطة، فما بالك إذا كانت هذه السياسة عربية؟
هو فرار متعمّد من هذه التفاهة السياسية التي تغرقنا دبقًا، وإلا فمن يستطيع أن يفسّر لي قرارًا حاسمًا بإلغاء عطلة يوم الجمعة في دولة إسلامية بمثل هذه السهولة، وكأن التوقيع يتمّ على بيع كومة خضار قبيل الخمج؟ هل يدخل القرار في باب الاقتصاد، أم السياسة، أم هو سعيٌ إلى طمس فلول الهوية في بلدٍ بات يفرّ من هويته فرار أرنب بريّ من خطر داهم .. هنا يستعصي عليّ الفهم، وأدرك أن لا سبيل لمقاربة قرارٍ كهذا إلا بعد اكتشاف آلية امتصاص الطماطم ميوعة الملوخية.
وقبلها، وبالتوازي معها، كانت هجمة التطبيع التي أشعرتنا أن ثمّة من اقترف جريمة بحقّ دول التطبيع الجديدة عندما حرمها من رؤية قرّة عينها عقودا، وعندما زالت أسباب المنع هبّت رياح السموم دفعة واحدة، للضمّ والعناق، وعقد تحالفاتٍ تستغرق في العادة عشرات السنين تقليبًا وتمحيصًا، بطرفة عين، فهل تتحمّل الشعوب العربية وزر هذا المنع، على افتراض أن الأنظمة العربية تنسجم ورغبات شعوبها؟ لا أميل إلى هذا التبسيط، بل أجدني مؤمنًا بنظرية "الطنجرة والمغرفة" التي تقول إن ما تستره الطنجرة تفضحه المغرفة، بمعنى أن التطبيع كان قائمًا فعليًّا، لكنّه رفع من تحت الطاولات إلى سطحها، عندما تطلّبت المرحلة كشف المخبوء، واللعب "عالمكشوف".. لكنه مكشوفٌ يحمل قدرًا ضخمًا من التفاهة أيضًا، عندما نرى مواطنًا مرتبكًا في دبي يعتلي سلّما ليشعل شمعدانا يهوديًا، في مشهد كاريكاتوريّ أقل دلالاته أسفًا فرق الحجم المهول بين الطرفين، بينما أغنية "بحبك يحمار" يغنيها الصهاينة المتحلقون حول السلّم؛ للعربيّ الذي أضرم النار في أصابعه قبل أن يضرمها في الشمعدان إرضاء لهم.
كلّ ما يدور محض تفاهة، لكنها طرازٌ من التفاهة غير الممتعة، سيما عندما تكون تفاهة سياسية، لأن أبطالها يدركون جيدًا أنهم في الواقع الفعليّ أقزام، ليس أمام إسرائيل فقط، بل أمام سكّين صغيرة تستلّها شابة فلسطينية من حقيبتها لتزرعها في قلب مجندة صهيونية أقصر منها قامة وتاريخًا وإرادة .. وشتّان ما بين هجمتين؛ هجمتي التطبيع والمقاومة.