في مئوية نازك الملائكة
ينقُل الأكاديمي العراقي، عبد الهادي محبوبة (1918 – 2001)، زوج الشاعرة نازك الملائكة (1923 – 2007)، ووالد نجلهما الوحيد البرق، من كرّاس مذكّراتٍ للشاعرة (لم يُنشر)، أنها، ضحى نهار يوم الثلاثاء، 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، 1947، وكانت في الرابعة والعشرين من عمرها، حدّثت والدَها، وهو باحثٌ وموسوعيٌّ، ووالدتَها وهي شاعرة، وأخيْن وأختيْن لها، في منزل الأسرة في بغداد، عن قصيدتها "الكوليرا"، بثقةٍ، إنها ستكون بداية عصرٍ جديدٍ في الشعر العربي، غير أن والدَها ردَّ عليها بأنها لن تستطيع الخروج على الذوق العربي، "فأنتِ واحدةٌ والأمة ملايين"، فعقّبت: "قولوا ما شئتم، أقسم لكم إني أشعر بأني قد منحتُ الشعر العربي شيئا ذا قيمة". وشهدت تلك الجلسةُ الأسريةُ "نقاشا طويلا وحوارا عنيفا"، على ما كتب محبوبة في مقدّمته كتاب نازك "قضايا الشعر المعاصر"، والذي صدرت طبعتُه الأولى في 1962، (أهدته إلى جمال عبد الناصر"تقديرا لإيمانه بالأمّة العربية وجهاده في سبيلها"). ورافعت في صفحاته الأولى عن "سبْقها" غيرَها (بدر شاكر السياب تحديدا) في كتابة "الشعر الحر" (غالبا ما تُنسب هذه التسمية إليها)، في قصيدتها تلك، والتي نُشرت في أول ديسمبر/ كانون الأول 1947. وضمّنت كتابها ذاك، المهمّ بحقّ، تنظيرا تأصيليّا لما "ينبغي" أن تكون عليه قصيدة التفعيلة، فالتحرّر من بحور الأوزان الخليليّة لا يعني، بحسب نازك، تحرّرا مطلقا يقود إلى ما حذّرت منه، وهو "الابتذال". ولذلك، بدا أن رميتها "الانعطافية"، وثوريّتها تلك، في مجرى الشعر العربي المعاصر، على شيءٍ من التقييد. ومن ذلك أنها جاءت على ما سمّتها "مزايا خادعة" في الشعر الحر، على "مزالق خطرة"، يرى صاحب هذه المقالة إن من شديد الفائدة أن يعرفها الشعراء الذين يُغريهم منطق التمرّد على السائد، وإنْ، في الوقت نفسِه، ليس من مقدّسٍ في الذي كتبتْه نازك، وتحمّست له عن درايةٍ وثقافةٍ رفيعتيْن، وليس من مقدّسٍ عند غيرها، سيما الذين جاهدوا كثيرا من أجل التهوين من قيمة ما أشهرتْه و"قعّدته" وأحدثتْه، وهي المرأةُ الرومانسيةُ والتي آثرت لاحقا العزلة، ثم الاعتزال، بعد أن نأت طويلا عن المجادلات والمضيّ فيها إلى غبار معارك السجال. وربما، صحَّ ما ذهب إليه عارفون، أنها غالبت شيئا من "المظلوميّة" في الأثناء. وإن يحسُن أن يُتَذكَّر أنها افتتحت مقدّمتها (البالغة الأهمية عن حقّ) ديوانها الثاني "شظايا ورماد" (1949) بأنه {في الشعر، كما في الحياة، يصحّ تطبيق عبارة برنارد شو، "اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية"، لسببٍ هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة للألوان التي تتلوّن بها أشياؤها وأحاسيسها}.
لم تُعطَ شعريّة نازك، وهي الناقدة أيضا، والمثقّفة جيدا في الآداب الأجنبية، والباحثة الاجتماعية إلى حدّ ما، ما تستحقّه من اكتراثٍ نقديٍّ جدّيٍّ وجادّ. جرى إيثار الجلبة بشأن أسبقيّتها تلك وتنظيرها ذاك على تناولها شاعرةً، صاحبة موقعٍ متقدّمٍ في القصيدة العربية الحديثة المبكّرة، سيّما الرومنطيقية (هل هي الرومانسية؟). والاحتفالية المقدّرة التي بادرت إليها وزارة الثقافة العراقية، في مئوية نازك الملائكة، وانتظمَت في بغداد أخيرا، وحضر افتتاحَها رئيس الحكومة، محمد شيّاع السوداني، وشارك فيها شعراء ونقاد عرب، يؤمل أن تُشجّع مجدّدا على إنجاز مطالعاتٍ وبحوثٍ أكثر اشتغالا على نازك الشاعرة والناقدة، لا الرائدة وحسب، وإنْ قدّم ماجد السامرائي وجابر عصفور وغيرهما جهودا طيّبة في هذا. وأظنّه صحيحا ما قاله الشاعر العراقي، عارف الساعدي، في الافتتاح، إنها المرّة الأولى التي تحتفي فيها الدولة العراقية من أعلى هرمٍ في السلطة حتى صفوف الأول الابتدائي، "بشخصيةٍ عراقيةٍ مؤثرة في المجتمع"، وفيما سمّت المنظمة العربية للثقافة والفنون (إلكسو)، نازك شخصية 2023 الثقافية، فإن احتفاليات العراق بها شملت المدارس. وفي القاهرة، التي أمضت فيها الشاعرة خريف عمرها ودُفنت فيها، احتفى بيت الشعر بنازك.
ليس من احتفاءٍ بالشاعرة أكثر من قراءة شعرها، ومنه "كان يوما تافها .. حتى المساءِ/ مرّت الساعاتُ في شبه بكاءٍ/ كلها حتى المساء/ عندما أيقظ سمعي صوتُه/ صوتُه الحلوُ الذي ضيّعتُه/ عندما أحدقت الظلمةُ بالأفق الرهيبِ/ وامّحت حتى بقايا ألمي، حتى ذنوبي/ وامّحى صوتُ حبيبي/ حملت أصداءَه كفّ الغروب/ لمكانٍ غاب عن أعين قلبي/ غاب لم تبق سوى الذكرى وحبّي/ وصدى يومٍ غريب/ كشحوبي/ عبثا أضرع أن يُرجِعْ لي صوتَ حبيبي".