في فرادة القاضي العمراني
ربما يعرف الناس كثيرا أن القاضي محمد بن إسماعيل العمراني (1922 – 2021) هو قاضي قضاة اليمن وفقيهها الأكبر ومفتي الجمهورية اليمنية، لكنهم ربما لا يعرفون أنه كان يمثل كل هذه المواقع بدون أي تعيين أو قرار رسمي صدر بذلك، وأنه تبوأ كل هذه المواقع باعتراف الناس وإيمانهم به وبهذه المكانة التي احتلها الرجل، من قلوبهم وعقولهم معاً، قبل أي شيءٍ آخر، ولهذا زهدت كل السلطات المتعاقبة في منح الرجل المكانة التي منحه إياها اليمنيون من تلقاء أنفسهم، وبدون انتظار أي قرار رسمي بذلك من أي جهةٍ كانت.
احتل القاضي العمراني هذه المكانة بعلمه الوفير والواسع وبزهده وتواضعه الجمّ، عاش في وسط الناس كأي أحد منهم، ولم يصنع حول ذاته هالةً تسوّره عن الناس وحاجاتهم وأسئلتهم ومعاناتهم، بل عاش وسطهم يأكل مما يأكلون ويلبس مما يلبسون. كل ما يميزه عنهم هو سعة علمه المبذول لكل سائل وطالب علم قصد داره أو مسجده الذي جلس فيه للدرس والإفتاء ما يقارب ثمانية عقود.
عاش الرجل زاهدا وقانعا لا يمتلك من هذه الدنيا سوى ما يعول به نفسه وأسرته، وهو القادر على أن يحوز كثيرا من الامتيازات والحضور والمكانة الدنيوية التي كان يمكن أن يحتلها بقليل من التماهي مع السلطات الحاكمة، لكنه مضى في حياته كلها، من موقعه حاملا للعلم وحارسا للقيم وحامل لوائها، سائرا على درب العلماء الزهاد الذين مضوا على الدرب ذاته، في الحفاظ على العلم قيمة عليا، لا يمكن تحويله إلى سلعة في سوق العرض والطلب ككثيرين.
لست هنا بصدد الرثاء أوالمدح للرجل، فأي مديح لا يمكن أن يفي عشر معشار مكانته العلمية والمرجعية والاجتماعية والإنسانية والثقافية، والوطنية، تلك المكانة التي جسّدها بحضوره الكبير زهدا وعلما واجتهادا، وبعيدا عن كل ما يتعارض مع صورة العالم الزاهد العابد الذي يعيش للعلم في خدمة الإنسان وحفظ كرامته وصون حرّيته وكرامته.
جلس القاضي العمراني للدرس والإفتاء منطلقا من مرجعية "إن صحّ الدليل فهو مذهبي"، ما جعله يختطّ مسارا مغايرا لمدارس فقهية تقليدية
إنما المقالة هذه بصدد الحديث عما مثله القاضي محمد بن إسماعيل العمراني من مكانة، وكيف تجسّدت هذه المكانة واقعا، من دون أن يسعى إليها، وقد وصل إليها في قلوب الناس بشتى مشاربهم ومذاهبهم واختلافاتهم، وهي ظاهرة غاية في الغرابة، في عصرنا الراهن الحافل بالاختلافات والصراعات المذهبية والفقهية والطائفية، وأمراض الجماعات الدينية المعروفة، والتي كان العمراني بمثابة شوكة الميزان فيها، بعلمه وسلوكه وحضوره، ما جعله يشكّل حالة متقدّمة، كمرجعية في التسامح والتجديد الديني معا، ضمن الحالة الإسلامية ومشكلاتها المعقدة والمتعدّدة.
لقد شكل القاضي العمراني مرجعية فقهية كبرى، يمنيا وعربيا وإسلاميا، ثمانية عقود من تربعه على كرسي الدرس الفقهي بالطريقة نفسها التي نشأ عليها الدرس الفقهي منذ لحظات تأسيسه الأولى في حواضر العالم الإسلامي المتعدّدة، منذ الإمام الشافعي ومالك وأبو حنيفة النعمان مرورا بمن تلاهم في هذه المدرسة، وصولا حتى هذه اللحظة.
جلس للدرس والإفتاء منطلقا من مرجعية "إن صحّ الدليل فهو مذهبي"، ما جعله يختطّ مسارا مغايرا لمدارس فقهية تقليدية، قديمة ومعاصرة، كثيرة، تتقيّد مذهبيا بمرجعياتٍ ضيقةٍ، لا تقبل الاختلاف والتعدّد، وتمارس نوعا من الوصاية على النص والدين معا، وهذه المدرسة صحيحٌ أنها ليست جديدة، يمنيا على الأقل، فهي امتدادٌ لمدرسة التجديد والإصلاح الديني اليمنية التي جسّدها عدد من أعلام اليمن الكبار، منذ ابن الوزير محمد بن إبراهيم (775 – 840 هجرية) وابن الأمير الصنعاني (1099 – 1182 هـ) ومحمد بن علي الشوكاني (1173 – 1250 هـ) وصالح المَقبلي (1047 -1108 هـ) والحسن بن أحمد الجلال (1014 – 1084هـ) وكذلك أبو محمد الحسن الهمداني (280 – 336 هـ) ونشوان الحميري.
لم يذهب القاضي العمراني إلى أي جامعة أو معهد ديني للدراسة والتلقي العلمي الحديث، وإنما تلقى علمه بالطريقة التقليدية، مشافهة من الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم مع الاحتفاظ بالسند والإجازات، مثل شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، أحد رجال هذه السلسلة العلمية التي ربما قد يكون القاضي العمراني أحد أهم حلقاتها أيضا، وقد يكون آخرها بالطريقة التقليدية ذاتها في التلقي والإجازة، بعيدا عن الطرق الحديثة في التلقي والتعليم والتعلّم.
مثّل القاضي العمراني ظاهرة جديرة بالدراسة والبحث، بتموضعه العلمي في أعلى قمة المدرسة الفقهية الإسلامية المعاصرة، على الرغم من انزوائه بعيدا عن الأضواء
وهكذا عاش القاضي العمراني حياته وكأنه في القرن الهجري الثاني، وأدواته العلمية والتعليمية، لكن عقله وتفكيره في القرن الرابع عشر الهجري انفتاحا واشتباكا مع أدوات العصر ومتطلباته، في حالة تجديدية فريدة، قد تشكل آخر تجليات هذه المدرسة اليمنية التي ظلت حاضرة على مدى قرون حاملة لواء التجديد الديني في قائمة أولوياتها، ولكنها مدرسةٌ ظلت حبيسة الكتب، ولم تنل حظها من الدرس والتنقيب عن نفائسها العلمية والمنهجية، على الرغم من أنها تعدّ من أهم مدارس التجديد الديني في العالم الإسلامي قاطبة، سابقة بذلك مدرسة الإمام محمد عبده ورشيد رضا، وجمال الدين الأفغاني في الشام ومصر، ومدرسة محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي في المغرب العربي.
زهد اليمنيين في أعلامهم ظاهرةٌ لا تخطئها عين الباحث، وتواضعهم أمام إبداعاتهم في غير محله أيضا، فضلا عن عدم قدرتهم على تسويق ما لديهم من أفكار وإبرازها لا تدانيها في إبداعها و فرادتها أي مدرسة فكرية أخرى، وهو ما يجعل كثيرين لا يدركون هذه المكانة التي تحتلها اليمن، بمفكريها ومثقفيها وأعلامها الكبار، لأن اليمني نفسه زاهد في تقديم ما لديه، وهذا ما مثلته حالة القاضي والمجدّد الفقيه والمحدّث العمراني، الذي حبس ذاته وحبسه اليمنيون في محليته، على الرغم من عالمية مكانته الفقهية التي تجاوزت مدارس وأفكارا كثيرة قديمة ومعاصرة في عديد من قضايا الفقه الإسلامي المعاصر تحديدا.
لقد مثّل القاضي العمراني ظاهرة جديرة بالدراسة والبحث، بتموضعه العلمي في أعلى قمة المدرسة الفقهية الإسلامية المعاصرة، على الرغم من انزوائه بعيدا عن الأضواء، لعوامل عدة ذكرت بعضها آنفا. يضاف إليها عكوف العمراني التام في مسجده وداره، وإغراقه في إلقاء دروسه بلهجته الصنعانية، التي لم يفارقها العمراني في حياته، نظرا إلى محدودية أسفاره، وبقائه طوال عمره في اليمن، عدا عن عزوفه التام عن فكرة التدريس في الجامعات المعاصرة التي تخضع لقوانين خاصة، في ما يتعلق بنظامها الأكاديمي وآلياته العقيمة أحيانا.
أما في ما يتعلق بجدلية الديني والسياسي في رؤية القاضي العمراني ومسيرته، فقد رسم الرجل حدودا واضحة له بهذه المعادلة، فصحيحٌ أنه كان من ضم مؤسّسي التجمع اليمني للإصلاح، بوصفه حزبا سياسيا كبيرا في اليمن، لكنه أيضا لم ينخرط بالشأن السياسي على حساب مرجعيته الفقهية، وظل ينظر إلى السياسة كشأن يومي لا يحتاج أي مرجعية إفتائية لتسييره، لأن القاضي العمراني يدرك جيدا أن السياسية شأن وتصريف يومي، مرجعيته رؤية الناس ومصالحهم واحتياجاتهم، ولا يحتاج أي مرجعية دينية ترسم للسياسة مساراتها وأدواتها.
من يعتقد أن العمراني لم يكن صاحب وجهة نظر سياسية واضحة فيما يجري في اليمن اليوم لا يفهم حقيقة مدرسته واجتهاداتها
وانطلاقا من هذه الزاوية، جمّد العمراني انتماءه الحزبي، وانصرف إلى أداء مهامه فقيها ومفتيا، بعيدا عن أي ارتباطات تقيّد تحرّره الفكري المعهود عنه. ولعل هذا المسار في حياة القاضي العمراني بحاجة لمزيد من الإيضاح والدراسة في ما صدر عنه من أقوال وأفعال وازن بهما بينه مرجعية فقهية وبينه شخصا له رؤيته السياسية تجاه العديد من قضايا الشأن العام، من دون أي خلط بين هذين المسارين، الديني والسياسي، في تناغم قل تحقيقه لدى عديدين من علماء اليوم، على الرغم من تمكّنهم العلمي الكبير.
غير صحيح أيضا في هذا السياق، أن القاضي العمراني لم يكن صاحب وجهة نظر سياسية واضحة فيما يجري في اليمن اليوم، ومن يعتقد هذا لا يفهم حقيقة مدرسة العمراني واجتهاداتها. صحيحٌ أن القاضي لم يعلن موقفا صريحا، ونأى بنفسه عن التصنيف بين طرفي الحرب الراهنة، والذي لا يحتاج لكثير ذكاء لفهم وجهة نظر القاضي العمراني فيها، وجهة النظر تلك التي يمكن بوضوح تبينها من خلال السياق العام للمدرسة الفقهية التي ينتمي لها، وتزعمها القاضي طوال مسيرته العلمية، وهي مدرسة التجديد الديني اليمنية التي ينتمي لها كل أعلام اليمن الكبار ممن كانوا يرون في الإمامة الزيدية أفيون اليمن وأسّ أزمتها وتخلفها وخرابها.
ما يمكن قوله ختاما، أن ظاهرة القاضي العمراني ربما تكون بمثابة آخر ظاهرة وجودا في طول العالم الإسلامي وعرضه، من حيث التكوين والتمكين، نحتاج قراءتها وفقا للحظتها، وتأملها جيدا، تلك الظاهرة التي تخبرنا أنه ليس كل قديم تقليدي غير قادر على الإبداع والفرادة، ولا كل جديد وحداثي يعدّ فريدا ومفيدا، ما يتطلب اليوم المواءمة بين هذين السياقين والجمع بينهما لتخليق مزيد من الإبداع يناسب حاضرنا ولا يعادي ماضينا.