في سيرة عبد الوهّاب الموسيقية
تنتهي من قراءة أحدث كتب المؤرّخ والباحث الموسيقي، اليافاوي الفلسطيني، اللبناني الجنسية، فكتور سحّاب (1942) "محمد عبد الوهّاب .. سيرة موسيقية" (ريشة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2021)، ثم تجد في آخر الصفحات ثبْتا بمؤلفات الكاتب الغزيرة والمتنوعة، وأن له مما لم يُنشر بعد "موسوعة محمد عبد الوهّاب"، في خمسة مجلدات (!)، بالاشتراك مع شقيقه الأكبر، المؤرّخ والناقد الموسيقي، إلياس سحّاب (1937)، فتتحزَّر بينك وبين نفسك ما يمكن أن تشمله هذه المجلّدات عن "موسيقار الأجيال"، فتخمّن أنها ربما ستتضمّن شروحا وافيةً تحيط بالخلاصات والوقفات في الكتاب الذي قرأتَ، بشأن كثيرٍ من نقلات عبد الوهاب الموسيقية التجديدية، مغنّيا وملحّنا، سبعين عاما، منذ أول أغنيةٍ أدّاها على أسطوانة "أتيتُ فألفيتُها ساهرة"، في العام 1921، إلى آخر أغنيةٍ لحّنها "أسألك الرحيلا"، في مطلع 1991، وغنّتها نجاة الصغيرة (كلمات نزار قباني)، أسابيع قبل وفاته في العام نفسه التي جاءت ذكراها قبل أيام (3 مايو/ أيار). وربما من الأدعى، بدلا من تخمين ما قد تتضمّنه الموسوعة عن ألحان عبد الوهّاب وأغنياته، أن تقيس الغائب على الشاهد، فتطّلع على "موسوعة أم كلثوم" التي صدرت في ثلاثة مجلّدات (دار موسيقى الشرق، بيروت، 2003)، وأنجزها المؤلف مع شقيقه إلياس أيضا، فربما شابَه الجهدُ فيها الجهدَ في الموسوعة الوهّابية المنتظرة الصدور، غير أنك لم تفعل.
يجمع الكتاب، في فصوله الاثني عشر، بين سمْتين، الأكاديمي، الشديد العلمية والمنهجية البحثية، والصحافي، المرتجل، والمستعاد نشر بعضِِه من دورياتٍ وصحف، كان فكتور سحّاب قد كتبه مقالاتٍ ومطالعاتٍ في مناسباتٍ وسجالاتٍ سابقة، أو قاله في مقابلاتٍ صحافيةٍ معه. وبذلك، تُرضي هذه "السيرة الموسيقية" لبلبل مصر، وهذا من ألقابٍ غير قليلةٍ خُلعت على عبد الوهّاب، أصحاب المزاجيْن من القرّاء، من يتقصّون الدقّة والمعلومة الموثّقة والتحليل العلمي، ومن يتسامحون مع نقصان هذه الروحية في الكتابة والتأليف والتوثيق، غير أن ما يجمع بين اللونين الحاضريْن بين دفّتي الكتاب فائضُ الحماسة لدى المؤلف في تعيين الأهمية الفنية، بل والحضارية أيضا، للموسيقار عبد الوهّاب، عربيا وعالميا، وكذا في "دفوعاته"، المُقنعة غالبا (أقلّه لصاحب هذه الكلمات) عن "مطرب الملوك والأمراء"، ضد اتهاماتٍ تردّدت ضدّه، من قبيل "سرقاتٍ" لحنيةٍ في بعض منجزه. وعلى أيّ حال، أهمية ما أضافه فكتور سحّاب، في مؤلفه الثالث والعشرين هذا، أنه قدّم كتابا "دليلا"، بتعبير الشقيق الأوسط للمؤلف، المايسترو والموسيقار والباحث، سليم سحّاب (1941)، في تقديمه الكتاب الذي "يحتوي على المختصر المركّز لكل ما يهمّ الباحثين الأكاديميين الموسيقيين الجدّيين العرب، في البحث في تراث هذا العملاق الموسيقي". وأظننا، كتّاب التعاليق السيّارة في الصحافة، نغتبط بأي "مختصرٍ مركّز"، وقد حضر هذا، في صنيع صاحب "العرب وتاريخ المسألة المسيحية" (كتابٌ للمؤلف صدر في 1986)، معطوفا عليه ثبتٌ شبهُ مكتمل لأغنيات محمد عبد الوهّاب وطقاطيقه ومونولوجاته ومواويله ومعزوفاته، ولألحانه ومن غنّوها، كما أن لألبوم الصور المختارة للموسيقار الشهير ما يفيد، سيما وأنها من مختلف مراحل عمره.
طريفٌ ربما، ومهمٌّ من قبلُ ومن بعد، أن يساجل فكتور سحّاب في سنة ميلاد عبد الوهّاب، ويخالف فيها عبد الوهّاب نفسَه الذي قال مرّة إنه من مواليد 1910، فيما "الحقيقي" لدى الباحث المجدّ أنها 1902، ويسرُد "قرائن" غاية في الإقناع تشهد على صحة ما يقول. وربما في الوسع أن يؤاخذ قارئ الكتاب على صاحبه أنه فيما "فصّل" كثيرا في بواكير عبد الوهاب الأولى، في نشأته الموسيقية، والبيئة التي كان فيها ومنها، في موسيقى القرن التاسع عشر العربية، وفي تربة التراث العربي والإسلامي، ثم ما أحدثه من "ثورةٍ" ليس ملحّنا فقط، وإنما مغنيا أيضا، وفي أنه "انفرد" في تطوير القصيدة العربية سنواتٍ عديدة، لم يفصّل بقدرٍ كافٍ بشأن المراحل المتأخرة من ألحان صاحبنا، وحتى المتوسّطة منها زمنيا، وإنْ جاء مرورا على شيءٍ مما أحدثه مع أم كلثوم وفايزة أحمد ونجاة ووردة. وتزيّد المؤلف، بعض الشيء، في الحماس لعروبيّة عبد الوهاب وقوميّته ووطنيته، من دون داعٍ ملحٍّ لهذا.. غير أن شيئا كهذا (وغيره) لا يخرم أبدا من القيمة العالية لكتابٍٍ فيه دبسٌ كثيرٌ عن هرمٍ عالٍ في الموسيقى والغناء العربيين.