في رحيل نجاح سلام
نجاح سلام، التي رحلت أخيراً، عن 92 سنة، من أواخر أعلام عصر النهضة الغنائية العربية الذين رحلوا، الواحد تلو الآخر، منذ أواخر القرن الماضي. ثمّة عوامل عديدة، ساعدتها على تحقيق نجاحات كبيرة، منذ انطلاقتها الأولى سنة 1949، فعَدَا عن أن صوتاً ذا عذوبة استثنائية، كان والدها، محيي الدين سلام، ملحّناً، وعازف عود، ومثقفاً كبيراً، شغل منصب رئيس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية، مدة طويلة، وكان مولعاً بالموسيقى إلى حد أنه حوّل بيته إلى ما يشبه المعهد الموسيقي، يوجد فيه، يومياً، عدد من المؤلفين، والشعراء، والعازفين، والمغنين. ولم يكن يكتفي بذلك، فقد كان يسافر في البلدان، باحثاً عمّا هو جديد، ومتميّز. وخلال إحدى جولاته، في ريف حمص السورية، تعرّف إلى عازف البُزق محمد عبد الكريم، الذي عُرف، فيما بعد، بلقب "أمير البُزق"، فتحمّس لموهبته الكبيرة، وصحبه معه إلى بيته في بيروت، وكانت نجاح، وقتئذ، طفلة صغيرة. ومن طريفه أنه كان، إذا بكت نجاح، يسارع للعزف لها على البُزق، فتسكت، وتنام بهدوء، وكان يقول لوالدتها، السيدة "أم عصام"، إنه يتنبأ لهذه الطفلة مستقبلاً في الفن، لأنها تستجيب لسماع الموسيقى.
اشتُهرت نجاح سلام، أول مرة، بأغنية "يا جارحة قلبي"، التي غنّاها، بعد ذلك، المطرب الكبير صباح فخري. وحكايتها أن سامي الصيداوي، كان في بداية مشواره الفني، كتب كلمات هذه الأغنية، ولحّنها على السليقة، أي من دون أن يكون عارفاً بتقنيات الموسيقى وعلومها وتوزيعها على الآلات المختلفة، وجاء يعرضها على محيي الدين الذي سمعها، وأُعجب بها، ووزّعها موسيقياً، وقدّمها بصوت ابنته، المطربة الصاعدة نجاح.
ومما ساعد على ارتفاع أسهم نجاح سلام، أن والدها صحبها معه إلى القاهرة، وهناك فتحت لها أبواب السينما، فمن حسن حظها أن موجة الأفلام التي يتخلّلها غناء رجل أو امرأة، أو كليهما، كانت في أوجها، حتى إن يوسف بيك وهبي، حينما اعتذرت ليلى مراد عن عدم مشاركته أحدَ أفلامه، سافر إلى لبنان، بحثاً عن مطربة شابة، وعاد، ومعه ألكسندرا بدران، التي لُقبت بنور الهدى. وكان فريد الأطرش يظهر برفقة شادية. وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وعبد العزيز محمود، كلهم اشتغلوا في السينما، وجاءت نجاح سلام لتشارك في عدة أفلام، أبرزها "دستة مناديل" (1954)، وغنّت في مقدّمة الفيلم من كلمات فتحي قورة وألحان أحمد صدقي "صفر يا وابور واجري شوية، وصلني قوام اسماعيلية، عايزة أوفّي الندر اللّي علية، كان جدي ندر عمي وأبوي، أيام الثورة المصرية، وأبوي ندرني أنا وأخويا، لأجل معركة الحرية". والمقصود هنا مصطفى النحاس باشا، الذي كان تحت الإقامة الجبرية في بلده، الإسماعيلية.
لم تربح نجاح سلام من زيارة مصر إطلاق نجوميتها في عالم السينما وحسب، بل حاز صوتها ذو الخصوصية النادرة إعجاب ملحّنين كبار، مثل رياض السنباطي، الذي لحّن لها من سحر عينيك، ويا ظالمني، وعايزة جواباتك، وقصيدة أتريدني أن أعذرك؟ وبالعودة إلى أمير البزُق، الذي عرف نجاح سلامة طفلة، وهدهد لها ببزقه لتنام، أنه التقاها في دمشق، بعد انطلاق شهرتها واتّساعها، وقال لها: "إنني شديد الإعجاب بما تقدّمين، ولكن في صوتك إمكانات أكبر بكثير مما يراه الآخرون، وأنا عندي أغنية، كتب كلماتها الأستاذ وديع الصافي، وسأعطيك لحنها، لأنه يناسب صوتك...". وكانت تلك الأغنية التي تعدّ قفزة كبيرة في مسيرتها "رقّة حسنك وسمارك".
ما يمكن أن يؤخذ على تجربة نجاح سلام، أنها قدّمت ما يعرف باسم أغاني التعبئة، ويُطلق عليها، الأغاني الوطنية، أو القومية، ومنها "سورية يا حبيبتي"، التي قدّمتها برفقة زوجها محمد سلمان، وفيها: "وبعثنا يسير، لمجده الكبير، مبشراً بعودتي، ورافعاً كرامتي، مجدّداً هويتي".