في ذكرى رحيل محمد شحرور

25 ديسمبر 2021
+ الخط -

يتبادر إلى الذهن في ذكرى مرور سنتين على وفاة المفكر السوري محمد شحرور، الذي شغلت طروحاته في فهم القرآن أناساً كثيرين، وأسيل في سبيلها كثير من الحبر بين مؤيد ومعارض، بل قل: بين حامد شاكر ومؤنِّب مُكفِّر، يتبادر سؤال جوهري: هل ترك شحرور إرثاً يمكن أن يكوّن خطاً إسلامياً جديداً يوازي الإرث السلفي الضخم الذي يسيطر على الخطاب الإسلامي، وعلى فهم عامة المسلمين للإسلام، منذ قرون طويلة؟ وعلى أقل تقدير منذ أعاد جمال الدين الأفغاني صياغة مشروع النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر، على قاعدة أن الأمة لا تنهض إلا بما نهض به سلفها، وهي القاعدة التي كرّستها كل الطروحات الفكرية الإسلامية التي تلته، وكل الحركات الإسلامية أيضاً؛ السياسية منها والاجتماعية، السلمية والعنيفة، الساعية لإصلاح المجتمعات العربية والقائلة بكفرها؟
شحرور نفسه قال في إحدى مقابلاته التلفزيونية إن مشروعه بدأ متأثراً بآثار هزيمة حزيران/ يونيو 1967، لأن الخطاب الديني الرائج وقتها لم يكن بعيداً عن المساهمة في الهزيمة من وجهة نظره، أي أن مشروعه هو الآخر قام على طموح نهضوي؛ يريد أن يفهم حقاً ما يقوله كتاب الله كي يكون ممكناً للأمة أن تنهض من أزمتها الحضارية. وإن كانت مخرجات مشروعه تجاوزت هذا الطموح لتوفر فهماً جديداً معزولاً عن سياقات المشروع النهضوي.
الناظر إلى المشهد الإسلامي اليوم يجد أن السلفية، أي الفكر الذي يفهم الإسلام على نهج فهم السلف له، تسيطر على كل شيء، بما فيه الخطاب الإسلامي الرسمي للحكومات العربية، وما يتبعه من مناهج تعليمية، وبرامج إعلامية، وخطب مساجد، يتساوى في ذلك الخطاب الوهابي التقليدي وخطاب الأزهر الشريف. كذلك حال القوى الإسلامية المعارضة، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين والحركات التي خرجت من عباءة الإخوان، وصولاً إلى الجماهير الغاضبة من سلوك الأنظمة والحكومات.

استند "تفسير شحرور" إلى فكرة أساسية، مفادها عدم وجود ترادف في كلمات القرآن، أي أن لكل كلمة معنى مستقلاً

غير أن خطاب شحرور، أو بشكل أكثر دقة: تفسير شحرور، بات يشغل مساحةً ما، لا يمكن تحديدها بعد، لدى قطاعات من العرب المسلمين، خصوصاً الشباب منهم. والسبب الجوهري أن شحرور، بالنسبة لهم، تمكّن من تقديم تفسيراتٍ معقولةٍ تواجه الخطاب اللاديني الذي يحارب الخطاب السلفي الرائج باعتباره التفسير المعتمد للإسلام، مستنداً إلى الاكتشافات العلمية المعاصرة في الفيزياء والفلك على وجه الخصوص، وإلى القيم الرائجة من جهة المساواة بين الرجل والمرأة، والحريات العامة. لقد قدّم شحرور تفسيرات مقنعة لهؤلاء الشباب كي يكون الإسلام موافقاً للعلوم والقيم الاجتماعية المعاصرة، حتى أن المرء يقع في تعليقات المتابعين لفيديوهات شحرور على "يوتيوب"، مثلاً، على عبارات عديدة تقول ما مفاده بأن شحرور أعادهم إلى الإسلام، أو أنهى تردّدهم الديني، أو حسم قلقهم الوجودي لصالح التمسّك بالرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة.
استند "تفسير شحرور" إلى فكرة أساسية، مفادها عدم وجود ترادف في كلمات القرآن، أي أن لكل كلمة معنى مستقلاً، فلا تكون "الأم" كـ"الوالدة"، ولا "الصلاة" كـ"إقامة الصلاة"، إلخ. وهكذا تمكّن شحرور من تقديم طروحات تجعل نظرية التطور موافقة لما جاء في القرآن حول قصة الخلق، أي على عكس الفهم الديني السائد القائل بخلق الإنسان من رجل واحد. كذلك الأمر في تفسيره موضوع الإرث، إذ جعل حصة الذكر كحصة الأنثى، على عكس الفهم الرائج الذي يجعل للذكر نصيباً مضاعفاً. ومنع قطع يد السارق، باعتبار "القطع" يعني كفّ اليد لا بترها، وصولاً إلى أحكام الرجم والجلد التي قال فيها معنى جديداً مستنداً إلى معاجم اللغة العربية. وامتدت قراءة شحرور إلى كل ما في الحياة المعاصرة، فأعاد حصر المحرّمات وفق ما ذكره القرآن باعتبار أن الأصل في الأشياء الإباحة، وقال في شأن المسيحيين واليهود ما لم يقله أي سلف، فاعتبر أتباع الأديان الثلاثة "مسلمين" وفق تحليله لخطاب القرآن، معتبراً أتباع الرسالة المحمدية "مؤمنين"، وهو فهم له انعكاساته بالضرورة على مبدأ المواطنة في عالم اليوم. لقد فارق "تفسير شحرور" السلفية وخطابها كلياً.

ثمة من ينتقد "تفسير شحرور" لا من زاوية مخالفته الإسلام، بل من باب تجاوزه حدود المعقول، ووضعه العربة قبل الحصان

غير أن الأخذ بتفسيرات شحرور القرآنية ما زال قناعات فردية متناثرة، لم تتحول بعد إلى تيار فكري جامع لأفراده، يمكنه تالياً أن يصير تياراً سياسياً أو اجتماعياً يوازي ما يشغله الخطاب السلفي المتفرّع إلى تياراتٍ لا حصر لها. وما يمكن قوله إن "تفسير شحرور" لا يمكن أن يتحول خطاباً موازياً للخطاب السلفي، أو بديلاً عنه، ما بقي محصوراً في عقول الأفراد، متأخراً عن أن تكون له مؤسساته وأدواته. فهل تكون؟
من الصعب تصور أمر مثل هذا في زمن قريب. السلفية سبقت وباتت هي الخطاب السائد، وما دونها خروج عن الطريق القويم. وهذه أهم معضلة تواجه "تفسير شحرور" في الحقيقة: أن معارضيه من السلفيين يمكنهم بسهولة التشكيك فيه باعتباره مناقضاً لما استقر عليه فهم المسلمين للإسلام عبر قرون، ومن ثم اتهامه واتهام مريديه بالخروج عن "ما هو معلوم من الدين بالضرورة".
ثمة أيضاً من ينتقد "تفسير شحرور" لا من زاوية مخالفته الإسلام، بل من باب تجاوزه حدود المعقول، ووضعه العربة قبل الحصان، أي تقريره تفسيراً يوائم العلوم التطبيقية والإنسانية المعاصرة، ثم تطويع فهم النص القرآني ليناسب ذلك التفسير المسبق، مستخدماً "عدم الترادف" ذريعة لما يريد. لذا لم يكن غريباً أن يتهمه بعض الناس بالتلفيق والترقيع، إلى جانب التقريع الذي يواجهه به خصومه السلفيون.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.