في خطورة الترميز والشخصنة

18 يناير 2024

(محمد الجالوس)

+ الخط -

تميل الطبيعة البشرية إلى تجسيد الأفكار والمعاني والموضوعات والقضايا في صور محسوسة. ولذلك غالبا ما يرتبط البشر بالأشخاص الذين يروْن أنهم يجسّدون القيم والمبادئ التي يؤمنون بها. لهذه الطبيعة إيجابيات وسلبيات، وأخطر ما فيها أنها تنحرف، في أحيانٍ كثيرة، عن البوصلة، ويرتبط المعنى في أذهان الجمهور بالشخص، وبالتالي، تنفصل الفكرة عن تجسيدها، ويحدُث الانحياز الأعمى أو الإحباط في حال غياب الشخص لأي سبب.

يمتلئ التاريخ بأمثلة تؤكّد خطورة الانجراف وراء الأشخاص بدلا من الأفكار، بل يمكن القول إن هذا كان الغالب على الخبرة البشرية، بينما لا يفعل العكس إلا أفرادٌ خارقون تحدّوا الطبيعة البشرية وتمكّنوا من التغلب على أهوائهم. وبعد اندلاع معركة طوفان الأقصى، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، شهدت الساحة العربية أوضح مثال لهذا الجدل، فقد تجسّدت فكرة المقاومة في أشخاص، مثل قائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزّة يحيى السنوار، والقائد العام لكتائب الشهيد عزّ الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، محمد الضيف، والناطق الرسمي باسم كتائب القسام أبو عبيدة. هؤلاء وغيرهم، حصدوا اهتماما بالغا من الجماهير العربية والإسرائيلية على حد سواء، حتى أن الاحتلال أصابه ما يشبه الهوس بالسنوار تحديدا، بعدما صار حديث استديوهات الإعلام الإسرائيلي، وتتمنّى قوات الاحتلال لو تمكنت من قتله أو إصابته أو اعتقاله، حتى يشكّل ذلك صورة النصر التي يبحث عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بعد أكثر من مائة يوم من الحرب على غزّة، من دون أن يتمكّن من تحقيق أيٍّ من الأهداف التي أعلنها منذ بداية العدوان على القطاع.

ترجم هذا الهوس بأخبار عديدة عن كل ما يتعلق بالسنوار؛ تاريخه والفترة التي قضاها أسيرا لدى إسرائيل، وكذلك سماته الشخصية وطريقة تفكيره، وغير ذلك. وفي الميدان، وجدنا هذا الهوس يظهر في صورة أخبار تثير السخرية من غباء الاحتلال، من قبيل إعلان نتنياهو عن محاصرة بيت السنوار، وكأنه جالسٌ داخله ينتظر قدومهم، وكذلك الإعلان عن العثور على متعلقات شخصية له، مثل حذائه والأريكة التي كان يجلس عليها في أثناء التقاط صورة شهيرة له، وغيرها من "الإنجازات" التي يعلنها الاحتلال بطريقةٍ توحي وكأنه حقق انتصارا عسكريا مهما.

يثير التفاؤل أن حماس، تحديداً، تمكّنت من تجاوز مأزق الترميز والشخصنة

وبعد الفشل الذريع في الوصول إلى مكان السنوار طوال الأشهر الماضية، حاول الإعلام الإسرائيلي أن "يجتهد" في تفسير سبب هذا الفشل، فزعم مراسل موقع "إسرائيل هيوم" أن الجيش الإسرائيلي "ربما" يعرف موقع السنوار، مُرجعا سبب عدم استهدافه إلى أنه "أحاط نفسه برهائن إسرائيليين عديدين استخدمهم دروعا بشرية". بالطبع، لا يمكن التعامل مع هذه الأنباء بجدّية، لكن الخطر هنا أن ترميز السنوار، وغيره من قادة المقاومة، ربما يصبح نقطة في غاية السلبية، في حال تعرّضهم لمكروه. ولذلك كان ينبغي التقليل من النشر بكثافة عن هؤلاء الشخصيات، وعدم ربط الجمهور بشدّة بهم، وتوطينهم على الارتباط بالفكرة لا الفرد، حتى لا ينقلب الأمر، ولكن تحقيق هذا الأمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن غير ممكن على الإطلاق في معظم الحالات، لكن يجب المحاولة في كل الأحوال.

ما يثير التفاؤل أن حركة حماس، تحديدا، تمكّنت من تجاوز مأزق الترميز والشخصنة، الذي وقعت فيه عشرات من حركات التحرّر والمقاومة في جميع أنحاء العالم، فقد اغتيل مئاتٌ من قادتها، بدءا من المؤسس الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، اللذيْن استشهدا خلال أقل من شهر، وكان هذا كفيلاً بتوجيه ضربة قاصمة للحركة. ورغم هذا، استطاعت "حماس" إكمال مسيرتها من دون تأثر كبير، بعد نجاحها بتحقيق وفرة في الكوادر السياسية والعسكرية التي عوّضت القادة الراحلين. وربما كان خلو الحركة من القيادات الكاريزمية بعد مؤسّسها إيجابيا في مجمله، إذ لم تعد الحركة ترتبط بأشخاص.

فلنقارن هذا، على سبيل المثال، بحزب الله اللبناني، الذي وقع أسيرا لشخصية حسن نصر الله، ولم يستطع الفكاك منها منذ عقود، ولا يبدو أنه يستطيع تجاوز ذلك في المستقبل المنظور، وهو ارتباط وصل إلى درجة مَرضية، أو مربكة للعقل البشري أحيانا. فبعد استشهاد نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، صالح العاروري، في أثناء وجوده داخل مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت، رفع ملّاك المبنى لافتة تحمل صورة نصر الله، مكتوبا عليها "فداء نعليْك". كانوا يقصدون المبنى، لكن لهجة اللافتة، وإشارتها إلى نعل نصر الله، جعل اللافتة تبدو وكأنها مسيئة للعاروري والشهداء الآخرين الذين اغتالتهم إسرائيل معه. كان يمكن لمن رفعوا اللافتة أن يتجنّبوا سوء الفهم، ويخرجوا من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، لو أنهم انحازوا إلى الفكرة بدلا من كتابة هذه العبارة بهذا القدر من التذلّل، إذ كان يمكنهم أن يكتبوا "فداء للمقاومة" فقط، وحينها سيتفق الجميع معهم.

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.