في حقيقة الخلاف بين أميركا وإسرائيل
بدأت واشنطن تعبّر علناً عن ضيقها من تجاهل الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة الدعوات الأميركية لمحاولة تقليص عدد الضحايا المدنيين. استياء واشنطن حقيقي؛ لكن منبعه ليس حماية أرواح الفلسطينيين، وإنما لأن العدد الهائل من الشهداء والجرحى أضرّ بسمعة الدولة الصهيونية، وأحرج واشنطن، ويكاد يطيح أهدافها الاستراتيجية في المنطقة. فمن ناحية، تجد واشنطن نفسها في شبه عزلة في الجمعية العامة ومجلس الأمن التابعين للأمم المتحدة، خصوصا أن أغلبية الأعضاء، ومنهم حلفاء لأميركا، صوّتوا مع قرار وقف إطلاق النار، فيما اضطرّت لاستخدام حق الفيتو لإسقاط مشروع مماثل في مجلس الأمن، ما جعلها تظهر أكثر ضعفا من المنافسين الرئيسين، أي الصين وروسيا، ليس فقط في المنطقة بل وفي العالم.
إضافة إلى أن تحوّل الرأي العام العالمي، وخصوصا في الولايات المتحدة، لصالح الفلسطينيين تطوّر مقلق بالنسبة للبيت الأبيض، إذ يعطّل حملة واشنطن لتوحيد الغرب ضد حركة حماس، وبالتالي حماية إسرائيل من تقويض مكانتها بين فئاتٍ واسعة كانت تؤيدها. لكن الأهم نسف التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل وإمكان الوصول إلى معاهدة تطبيع إسرائيلية سعودية تكون مفتاحاً لتصفية القضية الفلسطينية.
فيما تتوافق أميركا وإسرائيل على الهدف من الحرب، وهو اجتثاث حركة حماس، وتحويل قطاع غزّة إلى معسكرات اعتقال وتجمّعات سكانية تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، في حال فشل مخطّط التهجير، وبالإضافة إلى التهجير، ومحاولة إضفاء الشرعية على ذلك، بإقناع دول عربية بالمشاركة في إدارة مرحلة انتقالية ريثما تتم إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية، ووضع شروط جديدة حتى تقوم بدور مدير السجن في القطاع. ولكن تزايد عمليات قصف المدنيين وأعداد الضحايا من الأطفال والنساء بخاصة، ومشاهد اعتقال مدنيين غزّيين وتعريتهم بصورة مهينة، واكتشاف جرائم اغتيال مدنيين عُزَّل، بدأت تُحرج أميركا داخليا وخارجيا في مهمتها لحماية إسرائيل، وبدأت تخشى من إغلاق الباب على التطبيع أو تجميده تحت ضغط الرأي العام في العالم العربي. فأميركا التي زوّدت إسرائيل بأحدث أسلحة الدمار وأشدّها فتكاً كانت تأمل بإنهاء "العملية العسكرية" بسرعة، وبدون التأثير على مكانتها، لكن حرب الإبادة البشرية ضد أهل غزّة انفضحت بالصوت والصورة، فأحدثت تململا، بل وتمرّدا في مؤسسات رسمية أميركية. فالتجويع وعمليات القتل الجماعي وتدمير المستشفيات والبنية التحتية لا تزعج أميركا، لكن ما يزعجها أنها واسعة النطاق وتدار بطريقة علنية، بما يظهر ازدراء تاماً لإنسانية الفلسطينيين وللقانون الدولي وحقوق الإنسان. بل يصوّر الجنود الإسرائيليين جرائمهم، كما حدث في عرض فيديوهات الغزّيين المختطفين، ومنهم الزميل الصحافي ضياء الكحلوت، مدير مكتب "العربي الجديد" في غزّة.
واشنطن بدأت تحسّ بأنها قد لا تتمكّن من التوصل إلى اتفاقية سعودية مع إسرائيل قبل انتهاء فترة إدارة بايدن، وهي كانت تأمل أن تكون مثل هذه الاتفاقية، إرثا تاريخيا لهذه الإدارة
انفضاح إسرائيل ووقاحتها في التغنّي بجرائمها ورغبة الجيش الإسرائيلي في الانتقام وبث الرعب في صفوف الفلسطينيين وإجبارهم على الهجرة القسرية، يضر بالأهداف الأميركية قريبة وبعيدة المدى. فمن ناحية تريد سحق حركة حماس، ليس لأنها خطر على إسرائيل فحسب، بل لاستعادة هيبة الجيش الإسرائيلي الذي أنفقت مليارات الدولارات على تتويجه بـ"الجيش الذي لا يقهر"، فضمان أن يكون هذا الجيش الأقوى في المنطقة هو أحد أركان الاستراتيجية الأميركية، حفاظا على هيمنة أميركا وضمان استمرارها وبقائها الدولة العظمى الوحيدة المهيمنة على العالم بدون منازع. لكن خسارة الجيش الإسرائيلي المعركة تلو الأخرى وصمود المقاومة هزّا صورة الجيش الإسرائيلي، مع أن واشنطن سارعت إلى إسناد تل أبيب بقنابل خارقة لطبقات الأرض وأسلحة فتاكة. فهي ليست ضد بطش الجيش الإسرائيلي، لكن الدخول في معركة مع الرأي العام العالمي والأميركي، أضعف من قدرتها على إدامة الدعم والتبرير لإسرائيل، خصوصا أن المجازر المتلاحقة جعلت من الصعب إقناع السعودية بالتعهد بالمضي في محادثات التطبيع. حتى إن أقصى ما استطاع وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، الوصول إليه بزياراته المتعدّدة إلى الرياض أن السعودية أبقت الباب موارباً على نقاشات وحوارات مستقبلية مع أميركا. وهذا بحد ذاته ضربة كبيرة لاستراتيجية أميركا في المنطقة.
وكانت واشنطن، عشية بدء عملية طوفان الأقصى، بدأت تحتفي بنجاح مشروعها التطبيعي، وقرب شطب مصطلحات القضية الفلسطينية من قاموس الخطاب العربي وحتى الدولي، وبخاصة حين أعلن مسؤولون سعوديون أن التطبيع مسألة وقت. ففي المنظور الأميركي، التوصل إلى اتفاق سعودي - إسرائيلي ينهي "الصراع"، لأن التطبيع في عرفها عملية إخضاع للدول العربية لشروط إسرائيل وضمان لفرض هيمنتها على المنطقة، وبالتالي، إنهاء كل مطالب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتمهد لدمج إسرائيل في المنطقة بدون تحدٍّ لمشروعها الاستيطاني العنصري، وتستطيع إسرائيل فعل ما تشاء بالشعب الفلسطيني.
التناقض التكتيكي بين واشنطن وتل أبيب، إضافة إلى عزلة أميركا في الأمم المحتدة، لا يبقيان أي عذر للدول العربية لعدم التحرّك لوقف إطلاق النار
كانت المراهنة الأميركية على أن أي اتفاق إسرائيلي - سعودي سيوفر شرعية أخلاقية لإسرائيل، نظرا لمكانة السعودية ورعايتها الحرمين الشريفين، ويبعث رسالة إلى العالم الإسلامي أنه لا مبرّر دينيا لمعاداة إسرائيل. كما أن تمويل السعودية الدول العربية غير الغنية سيصبح مرتبطا أو مشروطا بمشاركتها التطبيع الذي بدأت الإمارات بفعله؛ إذ أصبحت الراعي المالي لاتفاقيات التطبيع الاقتصادية العربية مع إسرائيل. أي أن واشنطن بدأت تحسّ بأنها قد لا تتمكّن من التوصل إلى اتفاقية سعودية مع إسرائيل قبل انتهاء فترة إدارة الرئيس جو بايدن، وهي كانت تأمل أن تكون مثل هذه الاتفاقية، إرثا تاريخيا لهذه الإدارة، لكن الآن أصبحت الإدارة الأميركية شبه واثقة بأن ذلك لن يتحقق، ولذا نرى غضب بايدن، عدا عن أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزّة قد تؤخر أو تبدد آمال التطبيع الشامل سنوات طويلة، وتعطل الاتفاقيات مع دول عربية أخرى. فالأردن أعلن عدم نيته التوقيع على اتفاقية تبادل المياه المحلاة مقابل الطاقة الشمسية من وادي عربة، وهي اتفاقية مموّلة إماراتيا، فيما تقول شخصيات قابلت الملك عبدالله الثاني أخيرا إن عمّان في صدد إعادة النظر جذريا في علاقته مع إسرائيل، إذ إن سياساتها وممارساتها تهدّد أمن الأردن، الذي بات يخشى أن يصبح تفريغ الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين أمرا واقعا، وبالتالي تهجير الفلسطينيين إليه.
إذن، التباين الأميركي الإسرائيلي حقيقي، وإنْ ليس استراتيجيا، فهو اختلافٌ على الكيفية، وليس على الأهداف من العدوان على غزّة. وقد باتت هذه "الكيفية" تحرج الإدارة الأميركية خارجيا، وتهدد زعامة أميركا للعالم (الغربي على الأقل)، وداخليا بتصاعد الاحتجاجات ضد الدعم الأعمى لإسرائيل والدفاع عن جرائمها، خصوصا أن الولايات المتحدة تتجه إلى انتخابات رئاسية. وهذا التناقض التكتيكي بين واشنطن وتل أبيب، إضافة إلى عزلة أميركا في الأمم المحتدة، لا يبقيان أي عذر للدول العربية لعدم التحرّك لوقف إطلاق النار، فالانتظار حتى القضاء على "حماس" كما تريد بعض الدول العربية، هو مشاركة في الجريمة، بل وإعطاء فرصة لإسرائيل بقتل عشرات آلاف من الفلسطينيين. لكنه (التباين بين أميركا وإسرائيل) فرصة لتعظيم الفعل الجماهيري وحركات المقاطعة ومناهضة التطبيع، وهو ما تخافه واشنطن، وهو أداة فعلا وسلاح يجب أن نستمر في إشهاره في وجه أميركا وإسرائيل.