في حاجة قيس سعيّد إلى مؤامرة
لمّا استُهدف الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بظرفٍ بريدي (أو طردٍ) مسموم، وصل في يناير/ كانون الثاني 2021، إلى قصر قرطاج، أُعلن أن رئيسة الديوان الرئاسي في حينه، المستقيلة الساخطة في ما بعد، نادية عكاشة، هي التي لمستْه، ونُقلت إلى المستشفى، لإجراء فحوص، بعد أن شعرت إثر فتحها الطرد بـ"حالةٍ من الإغماء والفقدان الكلي لحاسّة البصر، فضلا عن صداعٍ كبير". وتاليا، أعلنت النيابة العامة في المحكمة الابتدائية في العاصمة إن الأجهزة المخبرية المختصّة في وزارة الداخلية بيّنت عدم احتواء الطرد على "أي موادّ مشبوهة سامّة أو مخدّرة أو خطرة أو متفجّرة". في تلك الغضون، تلقّى سعيّد اتصالا هاتفيا من نظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، أعرب فيه الأخير عن "تضامنه مع الشعب التونسي إثر المحاولة الفاشلة لتسميم رئيس الجمهورية". وبحسب الخبر الرسمي التونسي، كانت المكالمة بين الرجلين "فرصةً للحديث عن تسميم العقول والأفكار، لأن السّموم الزّعاف هي التي تستهدف الشعوب والدول قبل أن تستهدف الأشخاص والقيادات". .. كانت تلك الحدّوتة مسلّيةً بعض الشيء، ليس بسبب ما تفعله السّموم الزّعاف، وإنما لأن سعيّد كان، في طوْره ذاك، قد باشَر حروبه على المواضعات والأعراف السياسية، عندما امتنع عن المصادقة على تعيين وزراء جدد على حكومة هشام المشيشي (اختاره سعيّد نفسه رئيسا للوزراء)، بعد أن وافق عليهم البرلمان. وكانت ذريعتُه هي التي يستطيبها ضد من لا يروقون له، الفساد أو شبهته.
فاضت مياهٌ كثيرةٌ في تونس، منذ ذاك المظروف البريدي وصولا إلى إعلان وزارة الداخلية، نهار أمس الجمعة، اكتشافها "مخطّطاتٍ تحاول المسّ بسلامة رئيس الجمهورية"، وقالت إن التهديدات التي جرى كشفها "جدّية"، وإن التحقيقات "تجاوزت التصوّر والتخطيط إلى مرحلة متقدّمة". ولا يملك متابع الحالة التونسية التي تتدحرج من بؤسٍ إلى بؤسٍ إلا أن يخاف من نبأ ثقيلٍ كهذا، غير أن قصة خلوّ ذاك المظروف من أي سمومٍ زُعاف ستأتي إلى باله فورا، ليس فقط لأن سوء الظن من حسن الفطن، وإنما أيضا لأن جبالا من انعدام الثقة بالمؤسّسة التي تتولّى القرار في تونس قيس سعيّد لا تجعل استقبال ما أشهرتْه وزارة الداخلية باطمئنان، سيّما وأن لا تفاصيل ولا شواهد وأدلّة ولا إيضاحاتٍ قدّمتها المتحدثة باسم الوزارة تجعل قصة إحباط مخطّط المسّ بسلامة الرئيس مقنعةً بمقادير كافية، وإنْ ثمة، ربما، أساسٌ ينبني عليه بعض الكلام عن القبض على عنصر إرهابي، "حاول القيام بعملية على طريقة الذئاب المنفردة أمام أحد المراكز الحسّاسة" في شارعٍ في العاصمة، وحجز أداة الجريمة.
تزامن إعلان الداخلية التونسية هذا كله (وأخبارا أخرى تتعلق بـ"تمويلاتٍ مشبوهة" لجمعية خيرية) مع قول قيس سعيّد إن تاريخا جديدا ينكتب لتونس، في إشارةٍ منه إلى طبخه دستور جمهوريته الجديدة قيد الاستفتاء المعلومة نتائجه. والخشية هنا أن الوصول إلى هذا التاريخ يحتاج طوْرا جديدا ستعبر إليه الأزمة السياسية الحادّة التي تعرفها البلاد، بعد الكشف عن "تهديداتٍ" و"مخططاتٍ" تستهدف سلامة قيس سعيّد، عنوانه مزيد من التوتير والاحتقان، من شأنه أن يكون انعطافةً إلى استشراس نشط للأجهزة الأمنية والبوليسية تمضي إليه تونس. ولم يكن رئيس جبهة الخلاص الوطني المعارضة، أحمد نجيب الشابي، يضرب في الرمل، عندما أعلن خشيتَه من أن يكون الذي أعلنته الداخلية مقدّمةً لاعتقالات سياسيةٍ واسعةٍ في البلاد. وشواهد غير قليلة في غير بلدٍ دلّت على أن اكتشاف المؤامرات يسبق، في العادة، ملء الزنازين بأهل القول الآخر.
صحّت قصة التهديدات والمخطّطات التي تدبّر أمرا ما، أم تكشّفت عن ركاكةٍ كالتي صودفت في قصة السموم الزّعاف، فإن قيس سعيّد في حاجةٍ إلى مؤامرةٍ كهذه، على مبعدة أسابيع من الاستفتاء إياه. ستعمل الأجهزة المختصّة على طبخ قصّةٍ تربط خيوطا بخيوط، وتشتبه بفلانٍ وعلان، وبذلك الحزب وتلك الجمعية، وستنقطع أقلامٌ وهيئاتٌ ووزاراتٌ وفاعلياتٌ لحمد الله على نجاة الرئيس ممن أرادوا إزاحته بكيفية إرهابيةٍ، ولنجاة البلاد من نفقٍ مظلم لو صار هذا لا قدّر الله، ولقطع الطريق أمام كل من أراد وقف مضيّ تونس نحو تاريخها وجمهوريتها الجديديْن.. تحتاج اللوحة التونسية، المشوّشة بتدافع حادّ مع جماعة قيس سعيّد ودستوره، إلى هذا الكلام. وسعيّد نفسه يحتاج، في الأثناء، مؤامرةً جرى إحباطها، وها قد جاءت.