في "تصنيع" سرديّة داعش
بصورة موازية ومكثّفة لمجريات الحرب العسكرية في غزّة اليوم، تدور رحى حربٍ شرسة بين الروايات والسرديات، التي تمثّل أحد أهم الأبعاد الاستراتيجية والرمزية في حروب اليوم، بخاصة مع دخول الإعلام المجتمعي والتكنولوجيا الحديثة في صلب صناعات السياسات والمواقف وتعليب الرأي العام. وربما صُدم عرب ومسلمون كثيرون، فضلاً عن الفلسطينيين، بالانحياز الطاغي للسياسات الغربية والأميركية والإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية، بل والمساعدة على بنائها ونشرها.
وبسرعة البرق، التقط العالم السردية الإسرائيلية وعمل الإعلام الغربي والساسة الغربيون على وسم حركة حماس بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومضى الإعلام الغربي في بناء هذه الصورة الذهنية في أوساط الرأي العام العالمي، وتداول صور وفيديوهات مفبركة لهجوم "حماس"، وتجاهل الكوارث الإنسانية وحرب الإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في القطاع المحاصر المنكوب.
دعشنة "حماس" هو عنوان الرواية الإسرائيلية والأميركية بمساندة من حكوماتٍ غربية، وهو عنوانٌ يسهّل على حكومة نتنياهو القيام بجرائم إنسانية، طالما أنهم يقاتلون "حيواناتٍ بشرية" (شبيهة بجنود تنظيمي القاعدة وداعش في المنظور الإعلامي الغربي)، وسهّلت على الحكومات الغربية أن تُغمض عينيها عما يحدُث من فظائع؛ لكن المفارقة أنّ هنالك طرفاً آخر نسيه مكتب الرئيس الأميركي بايدن ومستشاروه (الذين تفانوا في إظهار مشاعرهم وعواطفهم تجاه اليهود)، وهو "داعش" نفسه ومعه "القاعدة"، اللذان تمثّل لهما أحداث غزة بيئة مثالية مناسبة جداً لتطوير سرديّتهم، وتدشين فصل جديد فيها، واستقطاب وتجنيد آلاف الشباب العربي والمسلم المحبط والمصدوم من المواقف الغربية والأميركية التي أخذت مواقف سافرة ضد حقوق الشعب الفلسطيني.
لا يوجد سيناريو أفضل ولا أقوى مما يحدُث حالياً ليقف خلفاء ابن لادن والزرقاوي والبغدادي والظواهري في كل مكان في العالم الإسلامي، ويصوغون رسالتهم السياسية والإعلامية بكل قوة: ألم نقل لكم، أميركا هي أساس البلاء والحكومات العربية متواطئة، والديمقراطية كذبة أميركية غربية أمام حقيقة واحدة مفصلية، وهي التي قالها قبل ثلاثة عقود، صموئيل هنتنغتون "صدام الحضارات"!
لتذكير السياسيين الغربيين الذين تسابقوا على توصيف ما حدث بـ11 سبتمبر الإسرائيلية، كما فعل الدبلوماسي الأميركي، مارتن أنديك، أنّ "11 سبتمبر" في نيويورك وواشنطن جاءت بعد عام من دخول شارون إلى المسجد الأقصى وانتفاضة الأقصى، واشتعال الأراضي المحتلة، وبعدها أعادت مراكز التفكير والخبرة في واشنطن صوغ السؤال المعروف والشهير "لماذا يكرهوننا؟"، وخرجت مجموعة من الباحثين والسياسيين ببيان خطير تحت عنوان "لماذا نقاتل؟!" لتبرير الحرب في أفغانستان، وردّت عليهم حينها نخبة من العلماء والمفكرين السعوديين (سلمان العودة وسفر الحوالي وغيرهما) ببيان أُطلق عليه بيان مكّة بعنوان "على أي أساس نتعايش؟" في محاولة للفت الانتباه إلى أنّ سيناريو "صدام الحضارات" سيأخذ الجميع إلى مساراتٍ كارثية.
لم تنته الحربُ على الإرهاب (التي أطلقها المحافظون الجدد) بهزيمة "القاعدة" في أفغانستان، ولا بخروج حركة طالبان من الحكم هناك، ولا باحتلال العراق (في ربط آخر غريب بين نظام صدّام حسين و"القاعدة"، لتبرير تدمير قدرات العراق والجيش العراقي لصالح إسرائيل أيضاً)، بل خرج لاحقاً ما هو أكثر راديكالية وقدرات من "القاعدة"، إنّه تنظيم داعش الذي أرعب العالم، وجنّد عشرات الآلاف من الشباب والشابات، وشكل طفرة كبيرة في مسار الحركات المتشدّدة والراديكالية، ثم لمّا هُزم عسكرياً بصعوباتٍ شديدة، فإنّ "طالبان" تمكّنت، مرّة أخرى، من العودة إلى أفغانستان بتوقيع من البيت الأبيض نفسه، الذي وجد نفسَه عاجزاً بعد آلاف الجنود القتلى ومليارات الدولارات على حساب الشعب الأميركي.
المفارقة أنّ الخطاب الإعلامي الغربي والسياسيين الغربيين والأميركيين ينساقون اليوم بسهولة إلى وضع حركة حماس (طالما اتّهمت من "القاعدة" و"داعش" بشتّى الأوصاف) بأنّها تنظيم داعش. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ ملايين المؤيدين لهذه الحركة في كل أنحاء العالم مع القاعدة الاجتماعية الفلسطينية والعربية والإسلامية كلهم تستعديهم الولايات المتحدة اليوم وحكومات غربية، وتؤجج مشاعر الغضب والإحباط والصدمة لديهم من هذا الصمت العالمي تجاه ما يحدُث في غزّة.
لم يقوَ تنظيم داعش وينتشر ويصعد إلّا بعد اغتيال حلم الديمقراطية بعد الربيع العربي. واليوم تقودنا حرب الإبادة في غزّة إلى مرحلة جديدة تجتاح فيها رياح الغضب والشعور بالظلم والرغبة في الانتقام ملايين البشر، ولموجة جديدة خطيرة من العنف الدموي، وأرجو ألا يخرُج بعدها من يتساءل: لماذا يكرهوننا؟!