في تذكّر فرانز فانون و"المعذّبين في الأرض"

14 ديسمبر 2022
+ الخط -

يتذكّر شباب سبعينيات القرن الراحل اسم فرانز فانون، الكاتب والمناضل والفيلسوف الذي ظلت أفكاره في الثورة و"العنف الثوري" ماثلة في أذهانهم، وقد أصبحت اليوم مصدراً ثريا للباحثين في ثيمة "الكفاح المسلح" وسيلة لتغيير المجتمعات الرازحة تحت نير الظلم والاضطهاد العنصري.

وفانون الذي يوصف بأنّه "زنجي أسود" ولد في جزر المارتنيك في البحر الكاريبي، وتشرّب الثقافة الفرنسية، وعُرف بتعدّد هوياته فهو فرنسي الجنسية، جزائري الهوى، أفريقي النزعة، عالمي التوجّه، لكنّ هويته التي أرادها لنفسه هي هوية المناضل من أجل بناء عالمٍ خالٍ من الاستغلال والتبعية، وقد وجد نفسه معنياً بالدفاع عن قضايا المضطهدين، بعد تجربته المرّة التي عاشها في ظل بحثه عن هويته، وعندما حمل الجنسية الفرنسية لم يخطر في باله أنّ لونَه سوف يقيّده، مراهناً على رصيديه، المعرفي والثقافي، متوقعاً أن يخدمه هذا الرصيد في أن يأخذ مكانه في مجتمع متعدّد الألوان كما توهم، لكنّه اكتشف الحقيقة عندما أصبح جندياً في الجيش ثم دارساً للطب، وكان شاهداً على الممارسات العنصرية ضد السود، إذ ينظر المواطن الأبيض إلى صنوه الأسود على أنّه مواطن من الدرجة الثانية. ودفعه هذا الاكتشاف إلى الهجرة إلى الجزائر حيث عثر هناك على هويته "العالمية"، ليعمل طبيباً ثم كادراً ناشطاً في صفوف الثورة الجزائرية.

لم ينسَ فانون أن يؤرّخ للعنصرية الأوروبية التي لاحقته كما لاحقت غيره في كتابه "بشرة سوداء... أقنعة بيضاء" بعدما أدرك أنّ "الصمت خيانة" و"أنّ الأوروبيين الذين يتحدّثون عن الإنسانية ينكرون على السود وعلى أبناء مستعمراتهم حقوقهم كبشر". وفي هذا المنعطف أيضاً، نشر كتابه الآخر "المعذّبون في الأرض" الذي اعتبر إنجيل الثورة العالمية التي سوف تعيد هيكلة العالم كي يكون أكثر عدلاً ونزاهة، وفيه أطلق مقولته اللافتة: "لم يترك لنا الاستعمار سوى هذا الخيار، إما أن نسلك طريق العنف الثوري أو أن نموت واحداً بعد الآخر على أيدي جلادينا السابقين".

اعتبر كتاب "المعذبون في الأرض" إنجيل الثورة العالمية التي سوف تعيد هيكلة العالم كي يكون أكثر عدلاً ونزاهة

وإذا كان بعضهم قد وجد في طروحات فانون نوعاً من الفكر الطوباوي، فقد تدارك هو نفسه ذلك، بتأكيده على أنّ العنف المطلوب ليس "عنفاً وحشياً" كالذي يفعله المستعمر، إنّما هو "عنف مسالم" يعتمد إرساء العدل نوعاً من التطهير للفرد وللمجتمع، ويتقاطع مع كلّ ما يجعل المرء يعيش في رفاه وازدهار. لكنّه حذّر من أن تكون استجابة الحكام لبعض الاحتجاجات المطلبية، كالحصول على أجور أفضل أو تمثيل في المجالس البلدية أو توفير هامش لحرية الصحافة، بديلاً عن تحرير الأرض.

انتبه فانون إلى ما يمكن أن يفعله الجهل لدى شرائح واسعة من مواطني المستعمرات، وخلص إلى ضرورة إحياء الوعي لدى تلك الشرائح على الحال التي سبّبها المستعمر لها، ودفعها إلى المشاركة في العمل الكفاحي لإنجاز التغيير المطلوب، لأنّ التغيير لا يأتي هبةً من السماء، ولا يمكن للفقراء المضطهدين أن يضمنوا حياتهم إلّا على جثث مضطهديهم.

وتكتمل أطروحة داعية "العنف الثوري" بإشارته إلى دور الطبقة العاملة في الدول الاستعمارية التي قال إنّها فقدت ثوريتها، وباتت تنعم بثمرة كدح عمّال المستعمرات، وأصبحت شريكة في الامتيازات التي توفرها حكوماتها التي تمارس عمليات نهبٍ واضطهاد أبناء البلدان الأخرى، ودعا إلى إيقاظ الحافز الإنساني لديها، بما يجعلها تتخلّى عن نظرتها العنصرية تجاه شريحة مواطنيها السود الذين يعانون من التمييز، فيما نظر إلى الطبقة الفلاحية أنّها "الأكثر ثورية إذ هي لا تملك ما تخسره" مستمدّاً نظرته هذه من رصده تجربة المستعمرات الأفريقية.

انتبه فانون إلى ما يمكن أن يفعله الجهل لدى شرائح واسعة من مواطني المستعمرات، وخلص إلى ضرورة إحياء الوعي لدى تلك الشرائح على الحال التي سبّبها المستعمر لها

ومن رصده هذا اكتشف أنّ الأحزاب الممثلة للبرجوازية الوطنية التي تسلمت السلطة بعد جلاء المستعمر سرعان ما استعارت عقلية المستعمر نفسه، وسعت إلى بسط سيطرتها على المال والقرار، ولم تفكّر في التخطيط لنهضة وطنية شاملة، إنما لجأت إلى استخدام وسائل العنف للدفاع عن بقائها في الحكم، حتى حولت حلم "الوحدة الأفريقية" إلى نوع من التعصّب العرقي.

وعن دور المثقفين في التغيير، يقول فانون إنّ المهم ليس هو تحرير الأرض فحسب، لأن تحرير الأرض لا يكتمل إلا بتحرير العقول أيضاً، و"العمل الفكري ضرورة وليس ترفا، وربطه بالعمل المسلح ضروري وواجب، إذا ما أردنا تغيير العالم".

لا يزال فرانز فانون في البال، بعد أكثر من سبعة عقود على رحيله، لكنّ أفكاره فقدت بعضاً من سحرها وبهائها، ولم يعد "العنف الثوري" الطريق الوحيد لتغيير المجتمعات، لأنّ مياهاً جرت في أكثر من اتجاه أوجدت مسالك متعدّدة جديدة للتغيير، وبما يتفق مع خصوصية كلّ بلد.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"