في تذكّر حاتم السيسي
لم تمرّ في هذا العام ذكرى 9 ديسمبر، يوم اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987، كما تمرّ في كل عام، بنوستالجيّات واستعادات عارضة، وإنما بارتباطٍ بالدم الجاري وبالمقاومة في غزّة... عندما يُؤثِر جيش الاحتلال وقْعاً جنونيّاً ظاهراً في استهدافاته مخيّم جباليا، الأكبر والأكثر اكتظاظاً في قطاع غزّة، منذ بدأ عدوانَه الجاري قبل أزيد من 60 يوماً، وعندما لا تتوقّف الأخبار الوافدة من داخل المخيّم وحواليْه، عن اشتباكاتٍ قويةٍ تخوضُها المقاومة مع الغُزاة، كما جرى أمس الأحد، على الرغم من كثافة وجود الجيش ودبّاباته في المنطقة التي نزح مئات الآلاف من أهاليها إلى الجنوب، فذلك كلّه يعني، من بين كثيرٍ يعنيه، أن ثمّة قيمةً عاليةً لهذا المخيّم في الكفاحيّة الفلسطينية المقاوِمة والصامدة، في راهن المواجهة في أتون المقتلة التي لا يُريد راعيها الأميركي أن تتوقّف. وفي ذكرى اشتعال الانتفاضة الأولى، وقد ذاع اسمُها انتفاضةَ الحجارة، يحضُر مخيّم جباليا بوصفه الشعلة الأولى فيها، عندما سارت فيه أولى مظاهراتها في ذلك اليوم قبل 36 عاماً، غضباً من قتل مستوطنٍ مجرمٍ بشاحنته أربعة عمّال، عند حاجز بيت حانون، اثنان منهم من جباليا البلد. كانت المظاهرة إيذاناً باشتعال فلسطين في حينه، فقد امتدّت المظاهرات في اليوم التالي إلى مخيّم بلاطة ونابلس، ثم عموم الضفة الغربية، سيّما مع سقوط أول شهداء الانتفاضة التي أرّخ مؤرّخون أنها توقّفت في يوم توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض، 13 سبتمبر/ أيلول 1993.
يستحقّ كل شهيدٍ في كل فلسطين أن يبقى اسمُه مُصاناً من النسيان. وليس منسيّاً اسم شهيد ذلك الأربعاء، حاتم السيسي (16 عاماً) من أبناء مخيّم جباليا الذي قام مكاناً للاجئين من فلسطين المحتلة في 1948. قتلَه جنديٌّ إسرائيليٌّ برصاصتيْن، ثم أخذ الشباب جثمانَه إلى مستشفى الشفاء في غزّة، قبل أن يُخرجوه من هناك، بسبب مطاردة جنود الاحتلال الجثمان، ثم خرجت من منزل أسرته جنازةٌ ليس فيها الجثمان، احتيالاً، مع تشييعه من منزل الجيران، على ما حكى رواةٌ من أهل المخيّم الذي لا يجوز أن ننسى أن طيران العدو استخدم، في أولى المجازر الكبرى في أتون المحرقة المتواصلة في القطاع، عصرية 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قنبلتيْن تزن الواحدة منها أزيد من 900 كيلوغرام، بحسب تحليل "نيويورك تايمز"، فيما ذكرت مصادر أخرى أنها ستّ قنابل، لتدمير مربّعٍ سكنيٍّ كامل، فقضى عشرات الشهداء، غالبيّتهم أطفال ونساء.
كان أبو عمّار يحرص، في كلّ عيدٍ في أثناء مستقرّه في غزّة، بعد عودته إلى بعض فلسطين، على زيارة والدة الشهيد حاتم السيسي (توفّيت في 1995). وفي البال أن أول خُطبةٍ له أمام الناس في فلسطين كانت في مدرسة الفالوجا في مخيّم جباليا. ولمن لا يعرف، رقصتُه الدبكة الفلسطينية (صارت قبل أيام من التراث المادّي العالمي الحي في لوائح "يونسكو") مع بعض الشباب، والصورةُ شهيرةٌ لهم، كانت هناك. ويُؤتى هنا على تلك المكانة التي خصّ بها ياسر عرفات مخيّم جباليا للتدليل فقط على ما كان عليه الزعيم الراحل، وهو الشهيدُ من قبلُ ومن بعد، من حسٍّ عالٍ بقيمة الرمزيّات في سيرورة العمل الكفاحي الوطني الفلسطيني على تنوّع أصعدته ومستوياته. ولعل سطور هذه العُجالة تقصِد شيئاً من هذا، عندما تنتقي اسم حاتم السيسي في غضون توالي سقوط عشرات الشهداء (ومئاتٍ أحياناً) يومياً في قطاع غزّة الذي يشهد نكبةً مريعةً، ومهدّدٌ بنكبة تهجيرٍ ماثلة.
تعب الفلسطينيون بعد استنزافهم في تلك السنوات الخمس، وقد سقط فيها 1550 شهيداً، ووصل عدد الجرحى إلى نحو 70 ألفاً، وقُتل 256 مستوطناً و127 عسكرياً إسرائيلياً. تعبوا، بعد أن ابتكروا، في غضون تلك الانتفاضة غير المنسيّة، أدوات نضالٍ إبداعية، في التعليم وصيانة الذاكرة ومقاومة كل استهدافٍ لهويّتهم وثقافتهم، وكان حسناً أن أفلاماً سينمائيةً روائيةً استُلهمت من ذلك كله، وكانت أعمالاً طيّبةً ومتقدّمةً ("المطلوبون 18" عن أبقار بيت ساحور مثلاً). كانت قيادة تلك الانتفاضة وطنيّة موحّدة، وكان حضور منظمّة التحرير فيها قوياً ومشهوداً (قتلوا خليل الوزير في تونس في أثنائها)، ثم صار الذهاب إلى مؤتمر مدريد، ومنه إلى "أوسلو"... غير أن من المهمّ في أيّ استعاداتٍ مثل هذه أن لا يغيب اسم حاتم السيسي، من مخيّم جباليا الذي ما زال يُقاتل، ويحمي للبطولة معناها.