في براءة عبدالله النفيسي
لا تنقطع الأخبار من غير دولةٍ عربيةٍ عن حبس مثقفين وصحافيين وكتّابٍ ودعاةٍ وناشطين، أو إصدار أحكامٍ عليهم في محاكماتٍ منقوصة المصداقية. وفيما لا ينفكّ كاتبون في هذه الدول، من دواليب الدعائية إياها، عن الإتيان، فيما يكتبون ويحكون، على قواها الناعمة، لا يلحظ المتابع غير خشونةٍ متجبّرةٍ في استضعاف أصحاب آراء مخالفة، ونعتهم باتهاماتٍ كاريكاتيريةٍ، صار من التقليدي أن تتضمّن دعم الإرهاب وتنظيماته. أما دولة الكويت فتتوالى فيها أخبارٌ عن تبرئة محاكمها كتّابا وإعلاميين وناشطين في قضايا ترفعها عليهم الحكومة (نعم الحكومة)، بل إنك تقرأ المطالعات التي تُرفقها المحاكم مع أحكامها فتجدها مرافعاتٍ متقدمةً في الانتصار لحرية الرأي والتعبير.
مناسبة التقدمة هذه أن محكمة الاستئناف في الكويت أيّدت، الخميس الماضي، حكم محكمة الجنايات، الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، براءة الكاتب والأستاذ الجامعي والنائب السابق، عبدالله النفيسي (75 عاما)، من تهمة الإساءة، في تغريداتٍ له، إلى دولة الإمارات، في دعوى رفعتها ضده وزارة الخارجية الكويتية، وطالبت فيها بإعمال مادة قانونية بشأن "جرائم أمن الدولة الخارجية"، تقضي بالحبس ثلاث سنواتٍ على الأقل على "كل من قام، من دون إذن الحكومة، بتجنيد الجند ضد دولةٍ صديقةٍ أو القيام بأعمال عدائيةٍ ضد دولةٍ صديقةٍ، أو تؤدّي إلى تعريض البلاد لخطر الحرب، والقيام بأعمالٍ عدائيةٍ تهدّد العلاقات الدبلوماسية بين الكويت والدول الصديقة". وكانت النيابة العامة قد اعتبرت أن النفيسي قام، بغير إذنٍ من الحكومة، بعملٍ عدائيٍّ ضد دولة الإمارات، وأنه نشر في حسابه على "تويتر" عباراتٍ "تشكّل إساءة لها، وتدخلاً في شؤونها الداخلية، وتطاولاً على حكّامها، بما من شأنه تعريض الكويت لخطر قطع العلاقات السياسية معها". ولافتٌ أن محكمة الجنايات، في بيان تبرئتها صاحب "الكويت.. الرأي الآخر" (كتابٌ أصدره النفيسي في 1978)، أهابت، في حيثيات حكمها، بكل مؤسسات الدولة، سيما التنفيذية منها، "الحرص على حرية التعبير عن الرأي والعمل على صوْنها، حيث إن المشرّع الدستوري أعلى من قدرها وأعظم من شأنها، بل وارتقى بها إلى مصافّ الحريات العامة والحقوق الدستورية".
وفيما ليس ظاهرا أن الخارجية الكويتية بادرت، من تلقاء نفسها، إلى رفع الدعوى على النفيسي، أم إن شكوىً تلقتها من سفارة دولة الإمارات بخصوص تغريداتٍ له، لنا أن نتذكّر أن قضيتين رفعتهما الوزارة ضد النائب السابق، ناصر الدويلة، بعد شكويين من سفارتي الإمارات والسعودية، بسبب تغريداتٍ له أيضا، ثم حُكم عليه بالسجن مع الشغل في واحدة، قبل إخلاء سبيله في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بموجب حكمٍ من محكمة الاستئناف نقضَ سابقه، وبغرامةٍ ماليةٍ في تهمة محدّدة، وببراءةٍ في الثانية. وكانت إجراءات مسلسل التقاضي متحضّرة، وتجاوب معها الدويلة بأريحية، الأمر الذي لم يجعل من المسألة أزمةً أو تعدّيا على حرية التعبير، أو افتراءً على ناشطٍ صاحب رأي، وإنما عملية تقاضٍ اتصفت بالمؤسّسية والاحترام لطرفيها.
خسرت وزارة الخارجية الكويتية، إذن، القضايا التي رفعتها ضد النفيسي والدويلة. كما كانت وزارة الإعلام الكويتية قد ألزمتْها محكمة الاستئناف، في إبريل/ نيسان 2019، بتنفيذ حكم المحكمة الإدارية، الصادر في 2018، إلغاء منعها تداول رواية سعود السنعوسي "فئران أمي حصّة". وقد برّأت المحكمة الرواية من تهمة خدش الحياء العام وتجاوز أعراف المجتمع. ولا تُنسى المرافعة، عالية القيمة، التي أوردتها المحكمة مع قرارها، وفيها إن "العمل الروائي محلّ الدعوى لا يخرج عن كونه عملاً فنياً، واجب تقييمه في إطار أن الاختلاف، أو الاتفاق معه، لا يكون إلا في منظور فني". ولا يُنسى ما أورده النائب العام في الكويت، في بيان حفظِه شكوى على كتاب شفيق الغبرا، "النكبة ونشوء الشتات في الكويت"، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وفيه إن "الكتاب عملٌ علمي بحثي، وأن الباحث الذي التزم أصول المنهج العلمي واستخدم المصادر والمقابلات لا يتحمّل مسؤولية نقل كل ما جمع من معلومات، وأنه لهذا لا يُقاضى ولا يحاكم".
إذن، تبرئة القضاء الكويتي عبد الله النفيسي من تهمة الإساءة إلى الإمارات موصولةٌ بتنزيه هذا القضاء نفسَه عن صغائر يحترف المكوثَ فيها القضاء في غير دولةٍ عربية، يُحبَس فيها صاحبُ رأي بسبب تغريدةٍ أو قولٍ على شاشة تلفزيون.