في انهيار الدول العظمى

30 يونيو 2023
+ الخط -

الأحداث المثيرة التي شهدتها روسيا الأسبوع الماضي، وتمثلت في تمرّد مجموعة فاغنر العسكرية على السلطة المركزية في موسكو، تؤكد معطى شديد الأهمية، أنه حتى القوى العظمى ليست في منأى عن التراجع والتفكّك والانهيار. هذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها، إذ سجّل التاريخان، البعيد والقريب، انهيار قوى عظمى وإمبراطوريات كبرى، كالرومانية والفارسية والإسلامية والإسبانية والبريطانية والفرنسية والسوفيتية. وغالباً ما يكون التراجع ثمَّ الاندثار نتيجة مترتّبة على تضافر عوامل داخلية وخارجية. لا يقتصر الأمر على روسيا، فحتى في الولايات المتحدة نفسها، الشامتة في نظام فلاديمير بوتين المتهاوي، ثمَّة تحذيراتٌ تصدُر منذ سنوات، وعلى أعلى المستويات، من أن مصيرها هي الأخرى قد يكون التفكك والانهيار، جرّاء اتّساع حجم مسؤولياتها عالمياً، وتصاعد التحدّي الدولي لنفوذها، وتعمق الانقسام داخلياً، وتلاشي الإجماع الوطني، حتى في ما يتعلق بالقضايا التي تمسّ الأمن القومي الأميركي. ولا شك أن الكرملين يدرك جيداً الآن أن نتائج دخول المعارك الكبرى بمنطق الهواة، مدفوعاً بالغرور والصلف، كارثية.

الحقائق السابقة خبرتها أميركا بعد غزوها أفغانستان والعراق مطلع الألفية الثانية وإعلانها "الحرب العالمية على الإرهاب"، من دون تقديم تعريف واضح له وضبط لمداه، فكانت النتيجة استنزاف قوتها واقتصادها ومعنويات شعبها وجيشها. أما الأخطر بالنسبة للولايات المتحدة فتمثل في إتاحتها المجال للصين كي تستغل تورطها في معارك هامشية مقارنة باستراتيجياتها الكبرى، فراكمت بكين من قوّتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وبرزت اليوم منافساً دولياً حقيقياً لواشنطن.

كان باراك أوباما أول رئيس ينبّه إلى المنحدر الذي تنزلق فيه الولايات المتحدة. وفي خطابين له أمام أكاديمية ويست بوينت العسكرية، عامي 2009 و2010، ذَكَّرَ أنه ما من دولة عظمى على مرِّ التاريخ استطاعت أن تحافظ على ازدهارها الاقتصادي في الوقت الذي تمضي فيه في مغامرات عسكرية خارجية واسعة. إلا أن المجمّع الصناعي العسكري الأميركي عمل على إجهاض جهود أوباما عندما سعى إلى الانسحاب من العراق وأفغانستان، وتوجيه تركيز بلاده، عوضاً عن ذلك، نحو احتواء الصين الصاعدة. وقع الأمر نفسه مع دونالد ترامب، على الرغم من أن سياسته الخارجية كانت فوضوية، لا ينتظمها إطار موضوعي. ومع مجيء جو بايدن إلى الرئاسة كان من الجليِّ أن الصين قد أحبطت جهود الاحتواء، وأصبحت اليوم، عملياً، "التحدّي الجيوسياسي" الأساسي للولايات المتحدة، حسب التوصيف الرسمي الأميركي. ومع أن إدارته أتمت الانسحاب من أفغانستان عام 2021، إلا أنه كان فوضوياً، بسبب الخلاف مع المؤسّسة العسكرية (إلى حدٍّ ما)، وأبان عن ضعف في القوة الأميركية، وهو أمر عملت الصين وروسيا على الاستفادة منه حينها.

قد تكون دولة ما وهي في أوج قوتها ونمائها وازدهارها تحمل في طياتها بذور تراجعها وتفككها، أو حتى فنائها

ورغم أن ثمَّة من يدرك في الدول العظمى القوانين التاريخية الصارمة التي لا تحابي من يبالغون في الارتكاز إلى القوة العسكرية والتمدّد وراء الإمكانات المتوفّرة، خصوصاً في ظل وجود قوى أخرى متربصة، إلا أن تحذيراتهم، في الغالب، تذهب هباءً أمام سطوة المتشدّدين الباحثين عن المجد بحد السيف ونفوذهم، غير آبهين بالتداعيات. المفارقة أن بوتين رفض أن يستمع إلى الأصوات من داخل نظامه التي نبّهته إلى خطر الانجرار إلى المستنقع الأوكراني، من دون استيعاب المخططات الغربية، وتحديداً الأميركية، أولاً، وبعد ذلك القيام بالإعداد الكافي والتجهيز الكامل. واليوم، تدفع روسيا، بل وهو شخصياً، ثمن ذلك القرار الكارثي. في المقابل، نجد تريّثاً صينياً، أمام الاستفزازات الأميركية التي قد تكون تهدف إلى توريطها في مواجهة عسكرية في تايوان، من دون أن يعني ذلك انتفاء إمكانية قيام حرب في السنوات القليلة المقبلة.

في المحصلة، قد تكون دولة ما وهي في أوج قوتها ونمائها وازدهارها تحمل في طياتها بذور تراجعها وتفكّكها، أو حتى فنائها. بالتأكيد، لم تكن روسيا قوة شاملة صاعدة على المسرح الدولي، كما الصين، قبل تورّطها في أوكرانيا، ولكنها تقدّم درساً بليغاً، بما في ذلك للأميركيين والصينيين، أن احتمالية الانهيار قد تبدأ من لحظة المبالغة في تقدير قوة الذات والتقليل من عزيمة الخصم، وحلفائه الكبار. ويقدّم لنا التاريخ الدليل القاطع أن موقع القوة العظمى ليس لقباً حصرياً لدولة ما ولا هي خالدة فيه. أيضاً، ينبينا التاريخ أن السقوط قد يأتي نتيجة مترتّبة على سيطرة سفهاء ومحدودي ذكاء وأشخاص عنيدين على صنع القرار في دولةٍ عظمى، ممن يرون كل مشكلة هدفاً يتطلب استخدام السلاح.