في انتظار "المقاومة" الأميركية
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
لا أشاهد الأفلام السينمائية منذ سنوات إلا نادراً. وغالباً عند السفر جواً، حيث أجد فرصة لمطالعة المعروض منها. وفي هذا السياق، استوقفني فيلم أنتج هذا العام بعنوان "حرب أهلية"، يصوّر حركة تمرّد من الولايات الأميركية الأهم، وفي مقدمتها ولاياتا كاليفورنيا وتكساس في المحور الذي عرف بـ"القوى الغربية"، ضد واشنطن. وتتمحور رواية الفيلم حول خطة أربعة صحافيين للسفر من نيويورك إلى واشنطن لإجراء مقابلة مع الرئيس الذي فجّر الحرب بإجراءاته الدكتاتورية (يشير الفيلم إلى أنه كان في فترة رئاسته الثالثة، ما يعني أنه خرق الدستور أو عدّله). وكان الرئيس يبشّر في خطاباته اليومية بنصر ساحق على المتمرّدين الذين كانوا يقتربون من العاصمة كل يوم. في تلك الأثناء، أصبحت المظاهرات تندلع يومياً للمطالبة بأساسيات الحياة مثل الماء، بينما انهارت قيمة الدولار، وتحوّلت المدن إلى غابةٍ يحكمها السلاح.
ولا يظهر الثوار بأفضل من القيادة السياسية الغارقة في الأوهام، حيث نجدهم يقتلون الأسرى والصحافيين وينكّلون بالمدنيين، وأكثرهم لا يعرف لماذا يحارب. ورغم أن الصحافيين هم أبطال السردية، إلا أنهم يسقطون، في نهاية الأمر، في المستنقع، فيصبح الجميع "صحافيين مدمجين" (والأصح أن يُقال مجنّدين)، ينتقلون من جيش إلى جيش. وبعضهم يلبس الزيّ العسكري في رسمنة وشرعنة للوضع. وكانت بطلة الأبطال في فريق الصحافيين شابّة التقتها الصحافية بطلة الفيلم الأصلية في مظاهرة احتجاجية على انعدام الماء، وأنقذتها من هراوات الشرطة (قتل المتظاهرين وحتى قصفهم من المشاهد الشائعة)، ثم اصطحبها الفريق بصفة مصوّرة متدربة في رحلة واشنطن. وعندما قتلت مرشدتها وراعيتها وهي تحاول إنقاذها من خط النار في البيت الأبيض، استمرّت بكل برود في تصوير مشهد القتل. أما ثالث الثلاثة، شريك البطلة الأول في المشروع، فتابع اقتحام المتمرّدين البيت الأبيض، مسجلاً قتلهم كبيرة حرّاس الرئيس عندما جاءت تفاوض لاستسلامه. وعندما قُبض على الرئيس، وجرّ جرّاً من تحت مكتبه، طلب منهم عدم قتله، واقترب طالباً منه تصريحاً (كانت آخر كلماته "لا تدعهم يقتلونني"). وعندما سجل هذه الكلمات، انسحب تاركاً الرئيس للقتل البشع.
تذكّر هذه السردية التي تجمع بين الخيال والمخاوف برواية للكاتبة الأميركية ليونيل شرايفر، بعنوان "آل ماندبيل - عائلة: 2029-2047"، ونشرت في منتصف عام 2016، أي قبيل انتخاب الرئيس دونالد ترامب لفترته الرئاسية الأولى. تحكي الرواية قصة أسرة أميركية ثرية خسرت كل ما لديها في عصر رئيس غارق في أوهام أن فكرة "أميركا أولاً" التي يفسّرها: "أميركا وحدها". ووجه الرئيس المتخيّل بأزمة ديْن تصاعدت مع بروز تكتل اقتصادي عالمي جديد استثنيت منه الولايات المتحدة عمداً. وعندما تبنّى التكتل عملة دولية جديدة تكون أساس التجارة العالمية، ردّ الرئيس بتصفير الديْن الأميركي وتجريم استخدام العملة الدولية تحت طائلة تهمة الخيانة العظمى. أعلن أيضاً تأميم كل موجودات الذهب داخل الولايات المتحدة، التي أصبحت مُلكاً للدولة. ونتيجة هذه القرارات، أصبحت سندات الدولة لاغية، ما أدّى إلى إفلاس عدد كبير من الشركات والأفراد، منهم أسرة ماندبيل.
أزمة الديْن العام الأميركي ملمحاً بارزاً في سرديات "ديستوبيا" الخراب القادم، جنباً إلى جنب مع شبح نضوب الموارد في بلدٍ يعيش على الإسراف الاستهلاكي
وفي هذا الوضع، توقفت كل الدول عن التعامل مع الولايات المتحدة اقتصادياً، ما نتج عنه انهيار الاقتصاد وفقدان الدولار قيمته. تفشّت المجاعة والكوارث، وسعى الملايين إلى الهجرة، خاصة إلى المكسيك التي اضطرّت إلى بناء جدار لحماية نفسها من تدفق اللاجئين من الشمال. (لزيادة الطرافة والمفارقة، جعلت شرايفر الرئيس المتخيّل من أصل مكسيكي!)، وقد انتقلت عائلة ماندبيل إلى نيويورك قبل أن تضطرّ إلى النزوح إلى ولاية نيفادا التي قرّرت الانفصال.
وكثيراً ما يسبق الخيال الحقيقة أو يصوّرها ببلاغة أكثر، أن إرهاصات متوالية نبّهت الأكاديميين والمفكرين والروائيين وصنّاع الأفلام ومؤلفي الكتب وكتّاب أعمدة الرأي في الصحف وغيرهم إلى مشكلات كثيرة كامنة في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأميركية، ودفعت بهم إلى توقّع الأسوأ. وبالطبع، يبالغ الروائيون ورجال السينما قليلاً، من أجل الإثارة أو لتقوية التحذير، كما في الفيلم أعلاه، وكثير غيره.
قد نسمع قريباً بانطلاق "المقاومة الأميركية"، وهي أسهل ما تكون في ظل انتشار السلاح الوبائي، وربما الحرب الأهلية التي توعّدت بها أفلام وروايات أميركية مستبصرة
في الحالة الأميركية، تواترت الظواهر والمؤشّرات التي تدفع إلى التوجّس من المستقبل. ولا يتعلق الأمر فقط بالانتشار المزعج لاستخدام الأسلحة النارية للعبث القاتل والقتل العبثي الجماعي شبه اليومي للأبرياء، خصوصاً الأطفال في مدارسهم. ولكن الأدهى تضافر الانتهازية السياسية والتطرّف المتصاعد في الحفاظ على هذه الأوضاع اللاعقلانية وتمادي لاعقلانيتها تحت شعاراتٍ تعبويةٍ تدّعي الحفاظ على حرّيات المواطنين، وعلى قدسية التعديل الثاني في الدستور الذي يؤكّد حرية، بل وحق وواجب، حمل السلاح للدفاع عن الحرية ضد الطغيان. ولكن العامل الفاعل الأكبر هنا هو الانتهازية السياسية، والسطوة المتزايدة للوبي تجارة السلاح الذي أصبح الأقوى في الساحة الأميركية (بعد اللوبي الداعم لإسرائيل). وقد أصبحت أي معارضة جدّية له أشد فتكاً بمستقبل (وحاضر) أي سياسي باحث عن النفوذ والبقاء، من الأسلحة التي زادت قدرتها على إزهاق الأرواح.
ولا تعادل هذه اللاعقلانية الانتحارية إلا قرينتها التي جعلت من الدفاع عن المستعمرة الصهيونية في فلسطين أهم واجبات المؤسّسة السياسية الأميركية التي لم يعد لإفلاسها الأخلاقي قاع يثبت عنده. هذا بالرغم من أن هذا التهافت على دعم هذه المستعمرة أصبح أكثر الحماقات كلفة في الأرواح والأموال والرصيد الأخلاقي من أي مغامرة أميركية طائشة أخرى في العقود الأخيرة. ففي الحالين، نحن أمام متلازمة انتحارية، تجعل من التدمير الذاتي أم الفضائل، في الوقت الذي يعرف الجميع خطل هذا المسلك.
العالم كله، وليس أميركا وحدها، مقبل على حقبة مظلمة. إلا أن ترامب سيكون، أولاً وأخيراً، عقوبة للأميركيين وحدهم
وتماماً، كما هو الحال مع ثنائي تصاعد الديْن الأميركي العام، وتزايد استخدام المخدّرات الفتاكة، فإن أنواع الإدمان الأميركي المدمّرة تقود إلى هلاك محتوم عبر الاندفاع نحو لذّة أو اكتفاء عاجل له عواقب وخيمة. ولعلها مفارقة أن الديْن الأميركي العام تصاعد مع صعود النيوليبرالية بقيادة رونالد ريغان، وخليفة جورج بوش الأب من 26.2% من الدخل القومي إلى 49.5% مع بداية رئاسة كلينتون في عام 1993. ولكنه انخفض إلى 33% مع نهاية رئاسته في عام 2001. ثم عاد التصاعد في عهد جورج بوش الابن، ليتضاعف من 3.339 تريليونات دولار إلى 6.369 تريليونات في عام 2008، وهو العام الذي شهد الانهيار المالي الكبير في أميركا والعالم. وتعود معظم هذه الزيادة إلى حروب أميركا المدمّرة في العراق وأفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.
المفارقة أن المحافظين القدامى والجدد افتخروا دائماً بميلهم إلى تقليص الإنفاق العام وتقليل الديْن، واتهموا خصومهم الليبراليين بالإسراف في الإنفاق ورفع الضرائب، إلا أن عهد كلينتون شهد تقليصاً كبيراً في الديْن العام، وتحقيق أكبر فائض ميزانية في تاريخ الولايات المتحدة. تلاشى هذا كله بعد "حروب الإرهاب" المُكلفة منذ أيام بوش الابن. وقد بلغ الديْن العام اليوم 35.46 تريليون دولار، بحسب إحصاءات الخزانة الأميركية المعلنة، أي ما يعادل 123% من الدخل القومي.
لا غرو، إذن، أن تكون أزمة الديْن العام الأميركي ملمحاً بارزاً في سرديات "ديستوبيا" الخراب القادم، جنباً إلى جنب مع شبح نضوب الموارد في بلدٍ يعيش على الإسراف الاستهلاكي على حساب بقية الكوكب، ويعجز عن لجم ديناميات التدمير الذاتي الداخلية. وكان أنصار ترامب قد هدّدوا بحرب أهلية، ما لم يربح مرشّحهم الذي ظلّ يقود حرباً على النظام الأميركي وأبرز ملامح الهوية الأميركية. وقد صرّح مؤيده الأبرز إيلون ماسك بأن فشل ترامب في الانتخابات (كان ترامب قبل غيره يتوقعه)، سيعني أن هذه ستكون آخر انتخابات أميركية.
تواترت في الحالة الأميركية الظواهر والمؤشّرات التي تدفع إلى التوجّس من المستقبل
وكان كاتب هذه السطور قد علّق سابقاً بأن مؤيدي ترامب يعيدون خوض الحرب الأهلية الأميركية السابقة، ويرى كثيرون منهم أن تحرير الرقيق كان خطأً كبيراً. وقد تأكّد هذا بصورة مباشرة من رسائل بدأت تُرسل إلى بعض الأميركيين الأفارقة تبشّر بعودة الرق. وحالياً، هناك تناغم بين الفاشيتين الإسرائيلية والأميركية، وذلك بعدما استبدلت العنصرية البيضاء في أميركا وأوروبا كراهية اليهود بكراهية العرب والمسلمين، وأصبح المتطرّفون اليهود قاب قوسين أو أدنى من رفع الصليب المعقوف. ولكن، يبدو أيضاً أن معاداة السامية داء قديم متأصّل في عقيدة تفوق العرق الأبيض. وقد ظهرت بعض ملامح معاداة اليهود بوضوح في بعض المجموعات المحورية في فوز ترامب في رئاسته الأولى عام 2016، ما أدّى إلى إبعاد بعضهم من البيت الأبيض وإسكات آخرين. إلا أن نار العنصرية لا تشبع من الحطب، كما ظهر من روائح العنصرية البيضاء بصبغتها الأصيلة، خاصة عند العامّة، كما ظهر من تصريح أحد مؤيدي ترامب، في إجابة عن أسئلة إعلامية إن ترامب رجل رائع لولا أنه "زوّج ابنته الجميلة لذلك اليهودي القبيح".
لهذا، العالم كله، وليس أميركا وحدها، مقبل على حقبة مظلمة. إلا أن ترامب سيكون، أولاً وأخيراً، عقوبة للأميركيين وحدهم. ولا يجب أن يُفاجأ هؤلاء، لأن الرجل كان صريحاً في توعّده بإرسال الجيش (وليس الشرطة) لاعتقال خصومه السياسيين، مثل نانسي بيلوسي. كما أن ما سمّاها حملته على "الدولة العميقة" (أكذوبة لا مكان لها في دولة ديمقراطية، لأن ما تسمّى الدولة العميقة هناك مؤسّسات تنفيذ القانون من قضاء وبيروقراطية مستقلة) تشير إلى حربٍ على الديمقراطية الأميركية. وقد تعمّ أميركا مشاهد قريبة من حال غزّة، حيث سيتحرّك الجيش لاجتياح الأحياء المؤيدة للديمقراطيين، وسيتعرّض كثيرون من الصحافيين والسياسيين والناشطين للاعتقال أو القتل، وسيبدأ أميركيون كثر بالفرار إلى كندا وما هو أبعد. وهذه عقوبة مستحقة لليبراليين الذين ظنّوا أن مجاراة التطرّف اليميني في أمورٍ، مثل دعم الإبادة في غزّة، قد تنقذهم من السقوط، ولكن ألا في الفتنة سقطوا، فقد سوّغوا لليمين كل أكاذيبه، وشرعنوا كل تجاوزاته. وعليه، ما سينفذه ترامب من أعمال تدميرية للمجتمع والدولة الأميركية ما هو إلا نتيجة طبيعية لهذه السقطة.
وعليه، قد نسمع قريباً بانطلاق "المقاومة الأميركية"، وهي أسهل ما تكون في ظل انتشار السلاح الوبائي، وربما الحرب الأهلية التي توعّدت بها أفلام وروايات أميركية مستبصرة. ولكن بعد فوات الأوان بالطبع.
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"