في المشهد الليبي
لم يكن المشهد في داخل البلاد الليبية أكثر منه وضوحاً على المستويين الإقليمي والدولي، فالحوارات متعدّدة، والاتفاقيات متشابكة، والتدخلات الخارجية تتلاعب في المشهد السياسي في جوانبه المختلفة، وكذلك المسارات مترامية، والتوافق لا يلوح في الأفق، بينما تموج البلاد في الداخل بدوّاماتٍ تشُدها إلى الوراء بقوة، في جميع النواحي، الاجتماعية قبل السياسية والأمنية، وذلك كله في ظل وجود بعثة أممية تدير حوارات المشهد السياسي الليبي بدون تقدّم يذكر، وكأن المشهد السياسي الليبي يراد تكراره مرّات وسنوات متتالية.
يحاول أعضاء من البرلمان بمقابل أعضاء من المجلس الأعلى للدولة في القاهرة إنتاج قاعدة دستورية تكون مخرجاً أولياً لحلّ الأزمة من الانسداد السياسي الليبي الذي تعاني منه منذ شهور. وترعى البعثة الأممية هذه الخطوة التي لا يجد كل من يتابع الشأن الليبي صعوبة في تشخيص الفشل "الذريع" المتوقع منها، باعتبار أن المقدّمات التي انطلق منها الحوار هي نفسها المقدمات التي أَنشأت الأزمة السياسية الحالية في البلاد، وبالتالي، لن تكون النتيجة إلا ضمن إطار الاختلاف وليس الاتفاق.
المعضلة الرئيسة تكمن في أطراف سياسية "تحمل صفة رسمية" في حواراتٍ لا يرتضيها المجتمع الداخلي، فما بالك بالقبول بمخرجاتها
لا يمكن أن يتولى المسار الدستوري في البلاد جزء من أعضاء مؤسّسات فقدت شرعيتها عبر سنوات متتالية، بل وهذه المؤسسات لم تحترم الاتفاقيات التي كانت جزءاً منها في ما مضى، بل على النقيض من ذلك، كل اتفاق كانت فيه أفسدته هذه الأجسام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبالتالي، لا يمكن أن يتحقق المسار الدستوري الفعلي والحقيقي بمؤسّسات فقدت شرعيتها من القاعدة الشعبية لها أولاً، وكذلك مُددها القانونية والدستورية ثانياً، وحتى تلك "الشرعية" المبنية على الاتفاقيات التي ترعها البعثة الأممية ثالثاً.
لا يمكن أن يكون المسار الدستوري خارج نطاق القاعدة الشعبية للمجتمع، وكل محاولةٍ في غير هذا الاتجاه حتماً ستقود إلى الفشل إن لم يكن الآني، فالفشل المتدرّج وصولاً إلى الانسداد الحتمي، كما أن المسار الدستوري لتجديد أي عمليةٍ سياسية في البلاد وإيجاد مخرج للوضع الحالي لا يمكن أن يأتي من أجسام تتعدّاها المصلحة، أي أن المصلحة مرتبطة ببقائها، وليس إنتاج أي عملٍ يقصيها، خصوصاً وأن هذا الاتجاه عمل عليه من قبل أكثر من مرّة، ودائماً تكون المحصلة صفراً.
العبث بالمسار الدستوري في المشهد السياسي الحالي يمكن أن يؤسّس لحالة غير طبيعة في أي مجال دستوري جديد
يحتاج المشهد الليبي اليوم إلى رؤية خارج الصندوق، تقفز على كل الحواجز التي تمنع تجديد السلطة التشريعية في البلاد، باعتبار أن ذلك هو بداية المخرج للأزمة الحالية، وإنْ تراكمت أسبابها، ومسبّباتها الجزئية الأخرى، إلا أن المعضلة الرئيسة تكمن في أطراف سياسية "تحمل صفة رسمية" في حواراتٍ لا يرتضيها المجتمع الداخلي، فما بالك بالقبول بمخرجاتها، والتي عادة لن تكون ايجابية، مهما ارتفع سقف توقعاتنا بالقبول بالنتائج.
لا يمكن لكل متابع، من جهة أخرى، أن ينكر الوضع المتشظي في البلاد، بمؤسسات موازية وأطراف سياسية متناحرة، لا تقبل بحلولٍ لا تكون فيها أو تُقصيها، وإن كانت هي لبّ الأزمة ومصدرها، فالحديث عن اختلافٍ في نقاط رئيسية في إنتاج قاعدة دستورية هذه الأيام في القاهرة هو حديث ترف، وترحيل للأزمة، لا أكثر، فالكل يعرف نقاط الخلاف، والحل والتوافق لن يكون فيها، خصوصاً ضمن إطار هذا المسار الحالي.
العبث بالمسار الدستوري في المشهد السياسي الحالي في البلاد لن تكون عواقبه على المدى القريب بقدر ما تكون على المدى البعيد، الأمر الذي ينتج عنه سن قوانين يمكن أن تستنسخ فيما بعد، بل ويمكن أن تؤسّس لحالة غير طبيعة في أي مجال دستوري جديد، كما هو الحال الذي تعاني منه أزمة السلطة التنفيذية الذي أسّس لها ضمن هذه الحوارات، ما جعلها تسير منذ فترة في إطار المحاصصة والجهوية والتوافقية التي تفسد أكثر مما تصلح، فضلاً عن أن يؤسّس معها للعمل بمبدأ الدستور والقانون.