في الفيدرالية الليببية
ما إن نجحت ثورة فبراير 2011 في ليبيا، حتى سارع نشطاء كثيرون في الشرق الليبي إلى الدعوة إلى إقامة نظام فيدرالي، على غرار الفيدرالية الليبية التي كان معمولاً بها في عهد المملكة الليبية، بثلاث ولايات: طرابلس الغرب، وبرقة، وفزان، والتي أُنتجت بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لتكون الدولة تحت سيطرة استعمارية بريطانية وفرنسية وإيطالية، غير أن النظام الفيدرالي لم يدم كثيرا في البلاد، وإنْ أوجد واقعاً إداريا؛ بل وحتى سياسياً، له تبعاته الاجتماعية والسياسية والجهوية على البلاد، ففي 26 إبريل/ نيسان 1963، أُعلن انتهاء النظام الفيدرالي الاتحادي بتعديل دستوري أقرّه مجلس النواب والشيوخ، وكذلك المجالس التشريعية في الولايات الثلاث (طرابس، برقه، فزان)، لتنتهي بهذا الإقرار الدستوري واحدةٌ من المراحل السياسية الليبية من عمر الدولة، ولتنشأ مرحلة الدستور والنظام الموحد على أنقاض النظام الفيدرالي الذي استمر أكثر من عشر سنوات بعد استقلال الدولة الليبية ما بين أواخر ديسمبر/ كانون الأول 1951 وإبريل/ نيسان 1963. وفي المقابل، يقال، أيضاً، إن السبب الرئيسي في الرجوع أو إنشاء النظام المركزي هو اكتشاف النفظ، وتأثير الشركات الأجنبية في هذا الاتجاه، من أجل إيجاد نظام موحد تُعقد اتفاقات اقتصادية معه، بعيداً عن الفيدرالية ونظامها المتجزئ.
السبب الرئيسي في إنشاء النظام المركزي اكتشاف النفظ، وتأثير الشركات الأجنبية في هذا الاتجاه، من أجل إيجاد نظام موحد تُعقد اتفاقات اقتصادية معه
عموماً، بعد تجربة فيدرالية كان ما لها وما عليها من عمر ليبيا وتاريخها، عاد من يريد إرجاع هذا النظام بقوة إلى البلاد بعد ثورة 17 فبراير في بدايتها، غير أن هذا الطيف الذي كانت نشأته في الشرق الليبي في 2011 لم يلق قبولاً في الأوساط الفاعلة فيا الشرق وقتها، فما بالك ببقية الدولة، جنوبها وغربها. ولكن بعد أحداث متتالية على مدار تسع سنوات تقريباً، تسارعت فيها الأحداث السياسية، والأزمات الاقتصادية؛ بل ووصل إلى درجة حادّة من الاحتراب، ليوجد مرة أخرى من يدعون إلى إعادة النظام الفيدرالي، بطريقة أو أخرى، داخل البلاد، عبر تقاسم المال والسلطة الذي هو أساس النظام الفيدرالي، وإنْ لم يصرح بذلك القائمون على بعض الاتفاقيات والحوارات التي تصبّ في هذا الإطار، ولعل جديد ذلك الاتفاقية الاقتصادية التي أبرمت أخيرا بين معسكر "الكرامة" في الشرق و"الوفاق" في الغرب الليبي، والتي من أبرز بنودها: "التوزيع العادل للموارد"، بمعنى توزيع المال بين الطرفين، وهو لب الفيدرالية الذي ينص على توزيع الموارد بين الأقاليم، "التنسيق بين الطرفين في إعداد ميزانية الدولة"، وهذا إقرار بالنظام الاتحادي المبني على النظام الفيدرالي أو الكونفيدرالية.
لم تلق هذه الاتفاقية "الاقتصادية" قبولاً في أوساط الغرب الليبي، بل ندّدت بها بيانات أجسام شرعية وتنفيذية رسمية كثيرة، وبالتالي فإن الحديث عنها جزء من الحل لا يزال مبكّراً، في وجود حوارات واتفاقات أخرى برعاية أممية لتقسيم المناصب السيادية جزءا من الحل، أيضاً، في ظل تقاسمات جهوية لا يُراد أن يقال إنها ترسيخ للفيدرالية التاريخية الليبية، وإن كانت حقيقة معبرة عنها بخطوات عملية.
يضاف أيضاً، عند استحضار الخيار الفيدرالي جزءا من الحل، حالة الاحتراب التي وقعت في السنوات الأخيرة، وكان لها أثر كبير في تشتيت الدولة وتمزيقها على كل الأصعدة، الاجتماعية منها والسياسية، ناهيك عن الاقتصادية التي أثقلت الأعباء عليها، وعلى مواردها في ظل الإصرار غير المبرّر على عدم تصدير النفط والتحكّم فيه بمنطلق جهوي سياسي وقبائلي، تغذيه أطراف خارجية بنعرات داخلية، أغلبها لا أساس لها من الصحة.
نظام الحكم المحلي يتيح للمجتمع المحاسبة المباشرة للإدارة المحلية على تقديم الخدمات
النظام الفيدرالي وإن كانت له مساوئه إلا أنه يبقى جزءاً من الحل في ظل الحالة الراهنة للبلاد، وليكن "نظام حكم محليا"، على أقل تقدير لمرحلة محددة من عمر الدولة، يمكن فيها إرجاع الاستقرار المجتمعي إلى المواطنين، في إطار من الخصوصية الواسعة لكل إدارة محلية، ولتجنيب الدولة ككل مزيدا من الاحتراب والصدام العسكري والسياسي. كما أن نظام الحكم المحلي يتيح للمجتمع المحاسبة المباشرة للإدارة المحلية على تقديم الخدمات، لتكون المحاسبة عبر المجتمع المحلي لتلك الإدارة قبل الدولة، بحكم ما يقرّره من تقاسم في الاختصاصات التنفيذية بين السلطة المركزية، والمحلية، تحقيقاً للتوازن الفعلي بينها، ومن ثَمّ النظر بعد ذلك إلى نظام أشمل يجمع ولا يفرّق، يتفق عليه، ولا يختلف فيه بين مكونات الدولة، وإداراتها المحلية المختلفة في مراحل متقدمة من عمر الدولة.
النظام الفيدرالي وإنْ له مساوئه إلا أنه يبقى جزءاً من الحل في ظل الحالة الراهنة في ليبيا
كما يضاف إلى هذا الخيار، وضعاً في الحسبان، درجة التوتر غير المسبوقة التي تمر بها البلاد، أكثرها تعقيداً تفتت النسيج الاجتماعي الذي حدث في ظل الاحتراب أخيرا، ونتج عنه تهجير للسكان، بل وتغير للدّيموغرافيا في مدن كثيرة، خصوصا الشرقية منها، مع استحضار عدم قدرة المكونات السياسية الرسمية على توافق حقيقي يبني الدولة، وينهي المراحل الانتقالية المتتالية، ناهيك عن انعدام رؤية واضحة المعالم للمصالحة الاجتماعية والعدالة الانتقالية الغائبة منذ نجاح الثورة.
وبنظرة واسعة وشاملة، يمكن إعادة إنتاج نظام محلي، على غرار النظام الفيدرالي السابق بأقاليم مختلفة ومتعدّدة، تضمن الحقوق والواجبات، فترة لا تقل عن التي أنشئ فيها النظام الفيدرالي في 1951بعد استقلال ليبيا، والذي كان الخيار إليه اضطراراً لا اختياراً، برؤية احتوائية للمخالف في وقتها، وتشابهاً للظروف والأحوال اليوم، فهل ستكون تجربة الماضي جزءاً من الحل اليوم، أم لا بد من قَولبة الحلول في مساراتٍ متعدّدة لا تخرج عنها.