في الحنين إلى جمال مبارك
في خطابه العام الأول منذ عام 2011، خرج علينا جمال مبارك، نجل الرئيس المصري المخلوع الراحل، ليسرد سيلاً من الأكاذيب بلغة إنكليزية متقنة، مؤكّد أنه لم يتعلمها في مدرسة حكومية. تشدّق بأنه لم يثبت دليل واحد على أن أفراد أسرته قد أخفوا أصولاً في الخارج، وأن كل ما ظهر من ممتلكاتهم جرى الإفصاح عنه طوعاً! يقول ذلك، على الرغم من أن أرصدتهم تم تجميدها في سويسرا فور إطاحة والده، ولم يحدُث أبداً أن أفصح هو عن حجمها.
في مطلع العام الجاري، نُشر التحقيق الصحافي الدولي "أسرار سويسرية"، والذي ساهمتُ بالعمل عليه مع مؤسسة "مشروع تتبع الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود". وفي إطاره، شاهدت بأم عينيّ حسابات علاء وجمال في بنك كريدي سويس، ونشرنا عنها.
امتلك الأخَوان ستة حسابات على الأقل، فُتح أولها عام 1987، وفتح آخرها عام 2009. وتُظهر البيانات إغلاق اثنين فقط منها. وعبر السنوات، شملت حركة الحسابات ثروة مليارية، غادر جانب كبير منها البنك إلى جهاتٍ أخرى. جرى افتتاح أكبر الحسابات عام 1993، وبلغت أقصى قيمة لرصيده 277 مليون فرنك سويسري في أغسطس/ آب 2003، بينما بلغت أقصى قيمة لرصيد حساب ثانٍ فُتح عام 1990 أكثر من 226 مليون فرنك سويسري، وذلك في عام 2008.
لم يخبرنا جمال مبارك أبداً بمصدر تلك الأموال، هل هي من راتب أبيه، أم من ادخاره من مصروف طفولته؟ وهنا يجب عدم إغفال انحياز القوانين الأوروبية والسويسرية، إذ يجب أن تثبت الدولة المدّعية أن مصدر هذه الأموال تحديداً غير شرعي، ولا يكفي إثبات أن صاحبها سياسي فاسد. كان يمكن، ببساطة، تعديل القانون إلى تحميل صاحب الأموال المشبوهة مسؤولية إثبات مصادرها الشرعية، لكن الرأسمالية العالمية لا تريد التنازل عن تلك "الغنائم". يبدو الجانب السياسي واضحاً إذا قورن بالتعامل مع أموال حلفاء الرئيس الروسي، بوتين، بعد غزو أوكرانيا.
ولافت أيضاً في حديث مبارك النجل اختلاف محتواه حسب اللغات، بينما قال بالإنكليزية "كان موقفنا والتزامنا أن نثبت براءتنا أمام القضاء المصري"، فإنه لم يتطرّق في حديثه بالعربية إلى أي ذكر لهذا الجانب. وبالطبع، يعلم جيداً إدانته الباتّة في قضية القصور الرئاسية، وهي قضية فريدة من نوعها، بفضل احتفاظ ضابط الحرس الجمهوري عمرو خضر بكل أوراق عمليات التزوير والاختلاس من ميزانية شبكة الاتصالات المؤمّنة، والتي تشمل 1007 فواتير أصلية. هذا فضلاً عن قضايا أخرى أفلتوا منها لأسباب إجرائية، من دون أحكام بالبراءة، كقضية الفيلات الخمس في شرم الشيخ التي ثبت أنها رشوة من حسين سالم، وإنْ سقطت للتقادم، وكذلك قضية هدايا "الأهرام" التي انتهت بالتصالح بإعادتهم قيمة ما نهبوه، علاوة على قضية قصر العروبة الذي ظهر أنه مسجل باسم الهانم سوزان مبارك، وجرى إغلاق القضية بعد إعادة القصر!
ليس من المهم الإسراف في تحليل محتوى الخطاب، فلا يعدو الأمر، في تقديري، تجهيزاً للعودة إلى دوائر المال العالمية، وكذلك بعضاً من "حلاوة الروح"، لكن من المهم تأمل ردود الفعل. وقد شهدنا استقبال قطاع واسع من المصريين الخطاب بالحنين إلى عصر حسني مبارك، وهي ظاهرة متكرّرة كالحنين في العراق إلى عصر صدّام حسين، أو أخيراً انتخاب الفيليبينيين نجل الدكتاتور الفاسد الراحل ماركوس. وفي تفسير ما حدث في الفيليبين، تتضافر عوامل التدهور الحادّ، الاقتصادي والأمني، وبحث الشعب عن مخلّص، وكذلك استغلال داعمي ماركوس الابن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بفضل ثرواتهم الطائلة وضعف تعليم الشعب، وكذلك حرص الرئيس السابق على تغييب قصة الثورة التي أطاحت ماركوس، فغيب كذلك رواية فساده واستبداده.
يمكن تطبيق العوامل نفسها على الحالة المصرية، وإن كان الناتج مختلفاً، فليس من المطروح واقعياً أن يلعب جمال مبارك دوراً سياسياً فعلياً، فمن الناحية القانونية ما زال لم يحصل على "ردّ الاعتبار" بعد الحكم عليه في قضيةٍ مخلّة بالشرف. ومن الناحية السياسية، جرى تجاوز نفوذه تماماً داخل بيروقراطية الدولة المدنية والأمنية... ولعل ذلك الحنين لاستبداد وفساد مألوفيْن يقرع جرس إنذار يدفع إلى مراجعاتٍ ما.