في الانقسام والوحدة الوطنية الفلسطينية
على امتداد تاريخها، شهدت الحركة الوطنية الفلسطينية انقساماً أخذ ملامحَ تناحريةً في مرحلة مُبكّرة في خضمّ الصراع لمنع قيام دولة يهودية في أرض فلسطين. وعرفت الحركة الوطنية توافقاً اتصف بالمرونة أحيانا، وبالحدّة أحياناً أخرى، في الستينيات والسبعينيات، في إطار مُنظّمة التحرير. وقد ضعف عملياً هذا التوافق اعتباراً من الثمانينيّات التي عَرَفت صدامات دموية. ومع ظهور حركة حماس، ساد توافق مرن، واستمرّ إلى ما بعد بروز السلطة الفلسطينية في التسعينيّات. لكنّ الفشل التام لاتفاق أوسلو (1993) في تحقيق الحدّ الأدنى من المكاسب الوطنية، بل أدّى إلى تعميق الاحتلال الاستيطاني للضفّة الغربية وتعميمه، وسّع الهُوَّة بين القوى الأكثر تأثيراً، وهما حركتا فتح وحماس. ووصل تعارض هذه القوى إلى ذروته في الصدام المُسلّح في عام 2007، الذي أسفر عن انفراد "حماس" بإدارة قطاع غزّة. ومنذ ذلك التاريخ، تكرّس انقسام جغرافي مُعزِّزاً انقساماً منهجياً بين الحركتين، وهما أكثر قوَّتَين فاعلتَين أهمّية، ثم لم تفلح وساطات ومحاولات عربية ودولية في بناء جسم وطني يضمّ القوتَين معاً، فمن مكّة إلى الدوحة والجزائر وموسكو وصنعاء وغيرها، ظلّت حالة الانقسام على ثباتها.
المخرج المتاح اليوم بناء تحالف وطني بموازاة منظّمة التحرير، وتعبيرها العملي مُمثَّلاً في السلطة الفلسطينية
والحال أنّ التوفيق بين الطرفَين في غاية الصعوبة. وتبدو حظوظ ائتلاف الطرفَين في إطار مُنظّمة التحرير في المدى المنظور معدومة أو ضئيلة جدّاً، بالنظر إلى اختلاف المرجعيات والتحالفات والبرامج والوسائل. التحالفات العربية والإقليمية متعارضة، والوسائل ببعدها الاستراتيجي متعارضة، إذ بينما تغرق السلطة في مفاوضاتٍ شكليةٍ وعبثيةٍ منذ عقود، وتلتزم بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، فإنّ "حماس" تؤمن وتمارس الكفاح المُسلّح. وموقف كلّ منهما متباين بشأن دولة فلسطينية في الضفّة والقطاع، ويخلق الانفصال الجغرافي بين الضفّة والقطاع صعوبةً إضافيةً مُعزّزة بنشوء سلطتَين مُتخاصمتَين. ومع العدوان الإسرائيلي المُتوحّش على قطاع غزّة، ازداد الأمر تعقيداً بسبب موقف السلطة الفلسطينية من هذه الحرب الوحشية. وبكلّ أسف، تحمّل السلطة، وبلسان رئيسها، "حماس" مسؤولية الكارثة المُطبقة على قطاع غزّة. وهو اتّهام يَرقى إلى حدّ تبرئة إسرائيل، التي يُدين عدوانها العالم بأسره، بمن في ذلك الهيئات العدلية الدولية. ومن هنا، يمكن تقدير ضرر هذا الاتهام، معنوياَ وسياسياً، وهو معول هدم جديد لآمال تحقيق وحدة وطنية.
في ظلّ هذه المعطيات، ما هو المخرج الممكن والمجدي؟... تنبع الإجابة من أنّ الوحدة باتت مُتعذّرة. ومن ناحية أخرى، الشعب الفلسطيني تحت ضغط أثقال رهيبة لا تبيح له هدر فرصة التأثير في تقرير مصيره. والحال أنّ الشعوب وحركات التحرّر لا تعرف الإجماع، ويندر أن تتآلف أغلبية مطلقة في سياقات تاريخية مُعقّدة. ويُقدّم التاريخ عِبَراً مفيدة لحالات تحقّقت فيها وحدةٌ قسريةُ بالعنف أو بالإكراه والتهديد، أو حتّى بالخداع. التعدّدية الفكرية والسياسية تميّز المجتمعات الإنسانية التي تُصبح أكثر وضوحاً مع نضجها وتطوّرها. المخرج المتاح اليوم بناء تحالف وطني بموازاة منظّمة التحرير، وتعبيرها العملي مُمثَّلاً في السلطة الفلسطينية. ليس هذا التحالف بديلاً من منظّمة التحرير، ولا يطرح نفسه ممثّلاً شرعياً وحيداً، وهو ادّعاء لم يعد بمقدور أحد تبنّيه، لأنّه لا يتّفق ومعطيات الواقع الملموس. يضمّ التحالف الوطني المنشود أساساً قوى المقاومة المشتبكة والفاعلة، والتنظيمات الشعبية، والشخصيات الوطنية المُستقلّة. وإضافة إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فإنّ نِسَبَاً وازنةً في "فتح" مُرشّحةٌ لتكون عنصراً أساسياً في هذا التحالف. لم يعد مقبولاً التعلّق بأمل وحدة وهمية بين الإضداد. لذا، من المجدي فضّ حالة الاشتباك السياسية العقيمة بين قوى متناقضة جذرياً، والانتقال إلى صيغة عملية تتوازى فيها القوى المتنافسة، والمتناقضة سياسياً.
أيّ ضررٍ مُحتملٍ لإعلان تحالف وطني فلسطيني أقلّ بكثير من الضرر الذي يترتّب من غيابه
لن يكون بروز تحالف وطني قطباً مركزياً ثانياً في المشهد الوطني تهديداً، بقدر ما هو تصويبٌ لخلل مُعطّل ومُربك، يعبّر عن نفسه بفقدان الشعب الفلسطيني قيادة ذات مصداقية ومُجمَعا عليها. ولعلّ بروز التحالف الوطني المنشود يُشكّل عاملَ ضغطٍ وإلهام يعجّل في إعادة بناء منظمة التحرير، لتعود ممثّلاً شرعياً لشعبها، بعيداً من احتكارها، بل توظيفها عنواناً تناحرياً عوضَ أن يكون وفاقياً. ومن المهم التنويه إلى أنّ أيّ ضررٍ مُحتملٍ لإعلان تحالف وطني أقلّ بكثير من الضرر الذي يترتّب من غيابه.
تتحمّل قوى المقاومة، وخصوصاً "حماس" و"الجهاد الإسلامي" مسؤوليةً خاصّة في بناء تحالف وطني. وهذا يقتضي نبذَ التردّد والارتباك، وأن تمتلكا الجرأة لكسر الحلقة المفرغة التي تأسر وتحاصر خياراتهما السياسية. إعلان تحالف وطني قطباً وطنياً مركزياً ليس تخويناً لأحد، بقدر ما هو تنافس سياسي مُبرَّر في خدمة الأهداف الوطنية، وفي تصويب شديد الإلحاح لمشهد وطني لا يوحي بالثقة وباعث على القلق، وتقليل للضرر الناجم عن مزاعم التمثيل والقيادة، التي لا تملك القوى القائمة مُنفردةً، بما فيها السلطة، القدرة على تحمّل تبعاتها ومسؤولياتها.