في استعادة الثورة الليبية
أكملت الثورة الليبية عشر سنوات من عمرها، أكملت مائة وعشرين شهرا، وما يزيد عن ثلاثة آلاف وستمائة يوم بالتمام والكمال، والبلاد لا تزال تَمُوج في دوَّامات سياسية وأمنية، وحتى اجتماعية. تثور تارة وتهدأ تارة أخرى، تحرّكها أمواجٌ خارجية، وتغذيها أطرافٌ داخلية، لم تذق طعم الاستقرار إلا في بداياتها، قبل أن تتفطّن لها رؤوس الثورات المضادّة، أو بالأحرى بعد أن أجهزوا على ثوراتٍ في بلدان أخرى قبلها، ومن ثم جاء الدور عليها، اقتيدت مكرهةً إلى خوض أتون حروبٍ ما كانت تعتقد أنها ستكون، وسياسة رعناء لا تعبّر عن آمال الثورة التي انطلقت في 17 فبراير/ شباط سنة 2011، ولتجعل من كان لها مناصرا يومها يغريه المال والسلطة ليكون في صف الثورة المضادة لها اليوم.
عشر سنوات من عمر الثورة ليس قليلا، بل إنه كثير وكثير جدا على أجسامٍ لم تتزحزح من مكانها منذ تسع، وثمان، وست سنوات، بحسب دخولها المعترك السياسي، انتخاباً أو اتفاقاً، فمن جسم تشريعي أريد له أن يكون تأسيسياً، وبرلمان عمره الافتراضي لا يزيد عن العام وبضعة أشهر، واتفاق عمره على أكثر تقدير عامان، فإذا به يمتد إلى ست سنوات، والأجسام التي كانت قبله لا تنحلّ، وإن حلت بحكم المحكمة والقانون، انتهاء للمدة أو طعنا في دستوريتها، بل يمتد الأمر أكثر من ذلك ليجدّد جسم من الأجسام لنفسة مرّات ومرّات!
أمام النخب الليبية الجادّة في بناء الدولة مفترق طرق، إما أن يؤسّسوا لدولة حقيقة، أو يأتوا على أنقاضها
هكذا كان عمل أجسام أريد لها أن تؤسّس لدولةٍ يسودها العدل والدستور، ارتباكا وتخبطا، واتفاقيات بلا توافق، ومغالبة بدون أغلبيه، ليكون اليوم أمام النخب الليبية الجادّة في بناء الدولة مفترق طرق، إما أن يؤسّسوا لدولة حقيقة، أو يأتوا على أنقاضها، ليس سياسة وعِمراناً وقياماً للدولة فحسب، بل هدماً وتدميراً للأجيال والإنسان والمجتمع، ولا يكون ذلك إلا بحمايتها والسعي نحو تحقيق أهداف انطلاقتها، سواء بالدعم الفكري الإصلاحي أولاً، أو العمل الجادّ ثانياً. من غير ذلك، ستكون الثورة عرضة للاختطاف، ليس جزئياً بل كلياً في وجود الثورات المضادّة والمصالح المعادية لها، والتي تتربّص بها بين الفينة والأخرى.
إن وجود قوى فاعلة وتكتل وطني يحمل أبعادا سياسية يمكن العمل عليها ومعها لإيجاده واقعاً مختلفا عما هو عليه الآن على الأرض، أصبح أمراً ملحّاً وضرورياً في هذه المرحلة من عمر الثورة، لتأسيس تيارٍ فاعل في المجتمع، ينطلق من القاعدة الشعبية له، ويكون مرآةً لما يكون في الشارع الليبي المجتمعي والنخبوي، غير ذلك فإن مخاض الثورة والثورة المضادّة لن يتوقف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لنعود إلى الخطوة الأولى في التأزيم وليس الحل، وإن ساد التوافق يوماً.
الثورة والدولة يعتريها اليوم توافق جزئي، افتقدته منذ سنوات من عمرها، يمكن من خلاله البدء في تكوين مشروع نخبوي وطني
كما لا يخفى على أي متابع اليوم أن الثورة والدولة يعتريها اليوم توافق جزئي، افتقدته منذ سنوات من عمرها، يمكن من خلاله البدء في تكوين مشروع نخبوي وطني، كما ذكرت، ينفض إرث الماضي، ويتخلّص من الأجسام المتراكمة على الدولة، وكانت من أسباب عدم قيامها وبنائها. ويعتمد ذلك، بالدرجة الأولى، على مدى القدرة في الدفاع على كل ما يعكّر صفو هذا المنطلق أو المشروع، باعتبار أن من الطبيعي أن تقاوم أطرافٌ داخلية قبل خارجية كل مشروع يسعى إلى البناء، خصوصا إذا كان يتعارض مع أهدافها ومصالحها. وليس من مصلحة الثورة المضادّة، أو من يدور في فلكها، إنشاء مشروع وطني يخدم المجتمع وينطلق منه. وبالتالي، المعوقات كثيرة، وكبيرة، والإصرار على النجاح وانتشال الثورة إلى الدولة يجب أن يكون الهدف والمنطلق. وفي المقابل، أيضا، لا يمكن التفكير أو العمل خارج المشهد السياسي الليبي اليوم، والذي تكتنفه تقاطعات كبيرة خارجية وداخلية، ليكون العنصر الحاسم في انتصار الثورة واستقرار الدولة هو العمل على حوارات جادّة فاعلة تحيّد عسكرة الدولة من جهة، وتحفظ كيان الثورة والدولة من جهة أخرى. ولا تبتعد عن إرساء المصالحة الحقيقة بين أبناء الشعب، وأن يكون الفيصل في تحقيقها العدل والقانون، وليس المجاملة والمداهنة، خصوصا في الحقوق والمظالم.
ثورة 17 فبراير اليوم بانتظار رؤية جادّة نخبوية تجديدية تُصلح ولا تُفسد، تؤسّس للكفاءة والنزاهة، وتبتعد عن المحاصصة والجهوية، وتسهم في تأصيل جاد ومقنع لأبناء الدولة، بناءً على أرضية شعبية وفكرية تكون داعمة لها، وتتخلص من أتون الخلافات، وتبني أسسها على أرضية مستقبلية واعدة لجميع أبناء الشعب، لتتجدد الثورة وتنتقل إلى الدولة.