في أولوية عقد مؤتمر وطني فلسطيني
منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، استمرّ لجوء الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني إلى المنافي، في حين تجذّر الاحتلال داخل الوطن، وتغوّل الاستيطان الصهيوني، وتعمّق نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري. في الوقت ذاته، استمرّت المقاومة بأشكالها المختلفة، وفشلت محاولات الوصول إلى حلٍّ يحقّق العدالة للشعب الفلسطيني، كما تعمّق التخلي الرسمي العربي عن مسؤولياته القومية، بل مضى في عمليات تطبيع مدانة مع الكيان الصهيوني.
في خضمّ ذلك، جاء "7 أكتوبر" لينفُض الغبار الذي تراكم على القضية الفلسطينية، ويعيد إليها مكانتها المركزية، ويفتح آفاقًا جديدةً أمام تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، ورفع الظلم التاريخي الذي لحق به، ويجدّد التمسّك بالرواية التاريخية العربية - الفلسطينية مقابل الرواية الصهيونية. وقد أدّى هذا الطوفان إلى حراكٍ لم يسبق له مثيل في الشارع العربي والدولي، وساهم في عزل الكيان الصهيوني، واتهامه بارتكاب إبادة جماعية، وأعاق التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني وجمّده، وجدّد حياة القضية الفلسطينية، وأعادها إلى واجهة الحدث العربي والعالمي، نتيجة الصمود الأسطوري المستمر للمقاومة لما يزيد على 170 يوماً، والمعاناة الإنسانية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة، وتضحياته الجسام التي فاقت، حتى كتابة هذا المقال، 115 ألف شهيد وجريح ومفقود.
حاجة الشعب الفلسطيني إلى وحدته وتعبئة قواه كلها، سبيلًا للتحرير والحريّة، لم تتوقف، وآن الأوان لأن يحدُث هذا كله في إطار ديمقراطي منظّم ومستمرّ
بقدر حجم الفرص والآمال التي نجمت عن هذه الملحمة الكبرى، ثمّة مخاطر ينبغي مواجهتها بأعين مفتوحة وإرادة صلبة، لمقاومة سياسة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وإعادة الاحتلال المباشر لمدن الضفة الغربية وقُراها ومخيّماتها، وقمع الفلسطينين المستمر في القدس وفي المناطق المحتلة منذ عام 1948، ومواجهة مخاطر التهجيريْن، القسْري والطوعي، وتحدّيات إعادة البناء، والتصدّي لمحاولات فصل غزّة عن الضفة الغربية، ومواجهة الترتيبات الأمنية والسياسية والإدارية التي يسعى الاحتلال، بمشاركة الولايات المتحدة، وبعض "النظام الرسمي العربي"، لفرضها في فلسطين، بما أصبح يُعرف بـ "اليوم التالي للحرب"، والمحاولات الدؤوبة لإحياء مسار التطبيع العربي الرسمي مع العدو الصهيوني مقابل بيع الوهم الذي تسوّقه الإدارة لأميركية عبر ادّعاء تبنّيها حلّ الدولتين، من دون أن تحدد أسساً واضحة له تكفل حقوق الشعب الفلسطيني، أو جدولاً زمنيّاً لتفكيك المستوطنات وانسحاب الاحتلال من الأرض الفلسطينية، وما يحمله ذلك من مخاطر حقيقية بتصفية القضية الفلسطينية وتَبَوُّء الكيان الصهيوني مقعد القيادة والسيطرة في العالم العربي.
حتى يتمكّن الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده في الوطن والشتات من اغتنام الفرص ومواجهة المخاطر، تبدو الدعوة ملحّةً لعقد مؤتمر وطني فلسطيني يجمع شخصيات وفعاليات نشطة في الهيئات الأهلية والمدنية والاقتصادية، ويضم مناضلين وأسرى محرّرين، وشباباً ونشطاء سياسين واجتماعيين ممن قادوا الحراك الشعبي في العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدّة، وأدباء وشعراء وفنانين، وأكاديمين ورجال أعمال، ليضطلعوا جميعاً بمسؤولياتهم في ما يمكنهم فعله مجتمعين لاستثمار الفرص ومواجهة المخاطر.
في عام 1964، أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية، وشكّلت كياناً معنويّاً للفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم، ولا يزال شعارُها المعتمد يحمل عبارة "وحدة وطنية، تعبئة قومية، تحرير". وحاجة الشعب الفلسطيني إلى وحدته وتعبئة قواه كلها، سبيلًا للتحرير والحريّة، لم تتوقف، وآن الأوان لأن يحدُث هذا كله في إطار ديمقراطي منظّم ومستمرّ وموحّد للقوى والطاقات والاتجاهات الفكرية والسياسية كلها.
على رأس أولويات المؤتمر الوطني الفلسطيني الدعوة إلى إعادة بناء منظمة التحرير على أُسس ديمقراطية لتضم أبناء الشعب الفلسطيني
وحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية أمر غير خاضع للنقاش، مثلما أنّ إعادة بنائها أمر لا تهاون فيه، بعد أن هُمّشت المنظّمة، وأُلحقت بالسلطة الفلسطينية، وتحمّلت التزاماتها، وتبنّت برامجها؛ فمنذ اتفاق أوسلو، لم تُعقد اجتماعات دورية للمجلسين، الوطني والمركزي، واللجنة التنفيذية، كما هو منصوصٌ عليه في النظام الداخلي، وتكلّست مؤسّساتها واتحاداتها المهنية والشعبية، وكادت تختفي، وفشلت في تجديد البناء عبر عمليات انتخاب وتوافق مستمرّة، وبسبب علاقة غير صحية ومعقدة بين السلطة الفلسطينية (تحت الاحتلال) ومنظّمة التحرير، تعمّق الانقسام، وفشلت جهود تحقيق الوحدة الوطنية وتشكيل قيادة موحّدة للشعب الفلسطيني، وكان من أسباب ذلك أيضاً تراجع قوة التيار الوطني الديمقراطي المناضل في فلسطين، بعد الترهل الذي أصاب حركة فتح، وألحقها بالسلطة الفلسطينية، وأبعدها عن غاياتها الأولى بوصفها حركة تحرّر وطني فلسطينية، وهو خللٌ مسّ أيضاً بعض الفصائل فلسطينية المناضلة على نحو أدّى إلى تراجع مؤسّسات العمل الفلسطيني القائمة وتجميدها، واحتوائها وحرفها عن غاياتها وأهدافها.
يقف على رأس أولويات المؤتمر الوطني الفلسطيني الدعوة إلى إعادة بناء منظمة التحرير على أُسس ديمقراطية لتضم أبناء الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجودهم، وقواه الحية، ومنظّماته الأهلية، ونُخبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية، لتشكّل مرجعية سياسية وقيادة موحدة متمسكة بثوابت الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير المصير، وهذه مهمّة مصيرية وملحّة لا تحتمل التأجيل، لأن إسرائيل وحلفاءها يعدّون لفرض ترتيباتٍ أمنيةٍ وإداريةٍ تضمن الإشراف الإسرائيلي الأمني على القطاع منفصلاً عن الضفة الغربية، ويراهنون على تعاونين فلسطيني وعربي في تنفيذها. ولا يمكن مواجهة هذا المخطّط، بما في ذلك مخاطر التهجير، قسريّاً أو طوعيّاً (عبر جعل ظروف الحياة في غزّة مستحيلة)، وتحدّيات إعادة البناء، والتخفيف من معاناة شعبنا، في غياب قيادةٍ فلسطينية موحّدة.
لا خيار للشعب الفلسطيني سوى الوحدة والتكافل والتضامن والعمل المشترك، وإعادة بناء مؤسّساته الوطنية، والتمسّك بمقاومته المشروع الصهيوني
لا يفترض في هذا المؤتمر أن يكون مسألة آنية، بل هو عمل مستمر وثابت ودؤوب، حتى يتمكّن من تحقيق أهدافه. وعليه أن يكون أداة ضغط ومتابعة ومراقبة، كما يجب أن يكون صوتاً فلسطينيّاً مسؤولاً لمواجهة أي مخطّطات تستهدف القضية الفلسطينية، أو أي جهات تحاول أن تُخضع الشعب الفلسطيني لإملاءات الاحتلال، وهو ما يتطلّب عملاً منظّماً فاعلاً يتكامل مع ما بقي موجوداً، وينشط في اتجاه تفعيل العمل الفلسطيني المؤسّسي، وتعبئة الطاقات الوطنية، والتمسّك بوحدة الأرض والشعب والقضية، والمحافظة على حق العودة، ومقاومة الاحتلال، والنضال ضد نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري.
ليس المؤتمر فصيلاً أو حزباً جديداً، ولكنه إطار وطني وديمقراطي، يؤمن أن التناقض الرئيس هو مع الاحتلال الصهيوني، وأن الاختلافات ذات الطابع الفكري/ الاجتماعي/ السياسي هي تناقضات ثانوية، يمكن حلها أو تقليصها ضمن روح نضالية ديمقراطية، كما أنه سينشط في مجالات النضال السياسي والشعبي والقانوني والميداني والفكري والثقافي والإعلامي والتعليمي والتنموي والإغاثي والصحي، ساعياً إلى التكامل والتعاون مع عشرات المبادرات التي تنشط في هذه المجالات، بحيث يتمكّن معها من سد النقص الحاصل نتيجة تخلّي مؤسّسات منظّمة التحرير بوضعها الراهن عن تأدية واجباتها.
في هذا الظرف، وفي ظل هذه المعركة الطويلة والصعبة والقاسية، ومع هذا الصمود الأسطوري للمقاومة الممتزج بتلك المعاناة الإنسانية، ولمواجهة محاولات إبادة شعبنا وتهجيره في فلسطين كلها، لا يملك الشعب الفلسطيني ترف الوقت، ولا يتحمل الخلاف على شكل الحلول، ولا خيار له سوى الوحدة والتكافل والتضامن والعمل المشترك، وإعادة بناء مؤسّساته الوطنية، والتمسّك بمقاومته المشروع الصهيوني بأشكالها المتاحة كلها.