في أشكال الدفاع عن النفس عند اللبنانيين
يبدو أن ما قامت به اللبنانية سالي حافظ في 14 سبتمبر/ أيلول 2022 من تحرير وديعة حق لها ولشقيقتها من المصرف اللبناني "بنك لبنان والمهجر"، بعد أن صادرت المصارف أموال المودعين من دون وجه حق، وذلك على خلفية الانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان (ومحاولة تنصّل المصارف من مصادرة أموال المودعين، عبر تحميل مسؤوليتها إلى الحكومات والسياسات المالية الخاطئة للدولة التي استلفت من المصارف معظم الدين العام المتراكم، علمًا أن جزءا كبيرا من هذه المصارف يرأسه أو يمتلكه أو يشارك في إدارته أحد مداميك السلطة أو أحد المحسوبين عليهم بالمباشر، والتي تضع موظفيها رهينة بمواجهة أصحاب الحقوق) يمكن الميل إلى مقارنته، على المستوى المحلي، بفعل التونسي محمد بوعزيزي الذي كان شرارة "الربيع العربي".
مع البوعزيزي، انطلقت شرارة الاحتجاجات والانتفاضات والثورات التي طاولت جزءا كبيرا من الدول العربية، بعد أن أحرق نفسه بشرارة امتدّ أثرها ليلهب التوق للحرية في أجساد الشعوب العربية المضطهدة والمقموعة والمنهوبة.
أما من ناحية سالي حافظ، فقد أثّر فعلها على انطلاق سلسلة مشابهة إلى حد ما، لكن محليًا، حيث انطلقت الاحتجاجات ومحاولات قطع الطرقات تضامنًا معها. بالإضافة إلى اعتصامات متنقلة، لا سيما أمام "ثكنة الحلو"، مركز توقيف محمد رستم وعبد الرحمن زكريا، رفيقيها في عملية الاقتحام. إلا أن اللافت في الأمر أنه، وبعد مرور يومين، انطلقت حوالي ثماني عمليات اقتحام طاولت المصارف في مختلف المناطق اللبنانية، وهي المرّة الأولى التي يحدث فيها أمر مشابه، وبالوتيرة نفسها، في تاريخ لبنان.
تجمهر اللبنانيون حول المصارف مشجّعين الفعل وصاحبه، وصاحبته، بكل الوسائل الممكنة
لم يكن اقتحام سالي المصرف المرّة الأولى التي نشهد فيها هذا النوع من التحرّكات منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. بل سبقتها محاولات عدّة كانت آخرها قبل شهر مع بسام الشيخ حسين. أما ما يميّز الاقتحام الذي قامت سالي به، فهو سلسلة الاقتحامات التي تلته، والتي يرجّح أن تستمر بالنظر إلى رد فعل المصارف التي سارعت إلى إغلاق أبوابها ثلاثة أيام بهدف تفادي الصدمة ومحاولة لملمة أوضاعها، وبهدف الضغط على الدولة اللبنانية، وعلى أجهزتها، كي تزيد الحماية لفروعها ولموظفيها أكثر مما هو قائم بالفعل، إلا أن ما استوقفنا في الاقتحامات الأخيرة هو ظاهرتان لا يمكن تخطيهما بسهولة.
الأولى دخول ضابط من الجيش اللبناني على الخط، حيث اقتحم مصرفًا في منطقة شحيم في جبل لبنان، كما ذكرت مختلف المواقع والوكالات اللبنانية وغير اللبنانية الإخبارية، فالجميع يعلم أن فقدان الليرة اللبنانية قيمتها الشرائية طاول مختلف رواتب الموظفين العامين، خصوصًا في السلكين الأمني والعسكري، فقد انحدر راتب العنصر إلى ما دون ثلاثين دولارًا. كما أن رواتب الضباط شهدت انهيارًا مماثلًا، وباتت لا تكفي لدفع فاتورة خدمة من الخدمات الأساسية على أفضل تقدير. علمًا أن تقارير كثيرة تشير إلى حالات تخلف عن الخدمة في صفوف العناصر، ومثلها حالات فرار كثيرة في قوارب الهجرة غير الشرعية التي تنطلق أسبوعيًا، وأحيانًا يوميًا، من لبنان. وهو ما يشير إلى أن الانهيار بدأ يفكك عميقًا في الدولة، وفي أجهزتها، وأن تعمّقه يمكن أن يتظهّر باتجاهات أكثر راديكالية ستسري وسيكون لعناصر من الجيش دور فيها.
الأمر اللافت الثاني كمية التضامن التي تلقتها سالي وبقية المقتحمين في مختلف المناطق اللبنانية، ومن لبنانيين مغتربين كثيرين، كما تضامن ناشطون عرب كثيرون، ومن مختلف المنظمات العربية والدولية. لقد تجمهر اللبنانيون حول المصارف مشجّعين الفعل وصاحبه، وصاحبته، بكل الوسائل الممكنة. وهي من المرّات القليلة التي نشهد فيها مثل هذا الإجماع الشعبي، ومثل حركات التضامن العابرة للمناطق والطوائف. ومن المرّات النادرة التي يشهد فيها لبنان هذا التضامن حول قضية تطاول مختلف اللبنانيين من دون القدرة على تطييفها. ما يرجّح احتمالات توسع رقعة الاحتجاجات وعودتها، وذلك بسبب اليأس الكامن في أنفس اللبنانيين، وبسبب الوضع الكارثي الذي أوصلتهم الطبقة الحاكمة إليه، وبسبب فقدانهم الأمان الفردي والاجتماعي، وبسبب الجوع والفقر والبطالة، وبسبب الوعي بالانهيار الذي أخذ يتبلور خلال انكشاف عدم جدّية السلطة في التعامل مع قضاياهم الأكثر إلحاحًا، بالإضافة إلى بداية تبلور وعي اللبنانيين بانفصال أحزابهم عن مطالبهم وأزماتهم التي تطاول شروط حياتهم الأساسية.
تنظر كل أحزاب السلطة بخشيةٍ إلى هذه الاقتحامات والاحتجاجات، وهي أدانتها ودافعت عن المصارف بالكامل
لقد صادف يوم الاقتحامات، في 16 سبتمبر/ أيلول الحالي، انعقاد جلسة مناقشة الموازنة العامة في البرلمان. حيث شاهد اللبنانيون استمرار السلطة في عاداتها القديمة لناحية تراشق الاتهامات، وتقاذف مسؤولية الانهيار، والتلكؤ في القيام بكل الإمكانات للتخفيف من حدّة الانهيار. على رأس هذا التنصّل، يأتي كلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي شدّد في كلمته على ضرورة البتّ في عدة عناوين تطاول حياة اللبنانيين، لا سيما الصحية والتربوية، وهو الذي كانت حكومته نفسها مسؤولة عن عدم إقرارها. علمًا أن ميقاتي هو الرئيس المكلف الذي لم يشكّل مع عون الحكومة العتيدة في هذه الحراجة السياسية، والجميع يعلم أن سبب عدم التشكيل خلاف كل من عون وميقاتي وبقية مكونات السلطة على حصص الوزراء.
تنظر كل أحزاب السلطة بخشيةٍ إلى هذه الاقتحامات والاحتجاجات، وهي أدانتها ودافعت عن المصارف بالكامل. ومن ناحيتهم، يشاطر بعض اللبنانيين السلطة في التخوّف، خصوصًا لناحية تصاعد الأعمال التي تتسم بطابع الشغب والعنف، والخوف من أن يكون تعمّق الانهيار شعلة ستترافق مع تراكم كمّي في العنف المستخدم، إلا أن إمعان النظر يُظهر أن اللبنانيين يعيشون في الانهيار، ويعانون من تداعياته ومن عنف السلطة، وكل ما يقومون به هو الدفاع عن النفس، فالانهيار بدأ عندما استباحت أحزاب السلطة مؤسّسات الدولة، وحين نهبت شخصياتها المال العام. والانهيار تعمّق عندما صادرت المصارف اللبنانية أموال المودعين وحقوقهم. والانهيار تجذّر حين شكّلت الأجهزة الأمنية، والقضاء اللبناني، درع حماية وحائط صد يحمي المصارف خلال مصادرتها حقوق أصحاب الودائع. والانهيار ساد، وانحلّت الدولة، حين تلكأت الأجهزة الأمنية عن تنفيذ أمر استدعاء بعض النواب والوزراء للتحقيق في واقعة تفجير مرفأ بيروت.
مع كل حدثٍ من هذه الأحداث، جرى الكشف عن وجه الدولة اللبنانية، وعن وجه أجهزتها، أمام الشعب اللبناني وأمام العالم بأكمله، وبدأت كل الآمال بتحقيق بعض العدالة تتبدّد. هذه الدولة التي يفترض أنها تدافع عن القيم الليبرالية: الحق بالحياة، والحق بالملكية، والحق بالحرية، حرمت ناسها من الحرية، ومن الملكية، ومن الحياة نفسها.